قسم: سلسلة الخديعة
أضيف بتاريخ: 13 يناير 2010
كثيراً ما يبهرنا المضحون من أجل المباديء والقيم، الذين يجسدون أفكارهم ويترجمونها إلى واقع حي، فتنتشر أفكارهم ويُمد في أعمارها، ولست هنا بصدد الحديث عن إيجابيات التضحيات ودورها في بناء الأمم، فهذا هو الوجه الإيجابي المشهور الذي أتفق مع الكثيرين فيه، لكنني أصدر أمراً باعتقال مفهوم "التضحية" للتحقيق معه، بتهمة التخدير وسلب الإرادة، والعبث بمرشحات الأفكار في العقل، وتمكين الأفكار الخبيثة من الاستيطان في عقولنا…
لم يكن من السهل كشف خديعة التضحية، فبين التضحية الهدامة والبناءة شعرة، كما أن مفهوم "التضحية" يصعب الإمساك به أو بسطه على طاولة وتقييده من أجل تشريحه، لكن وفق تحليل المعمل الجنائي لأدمغة المضحين عبر التاريخ، وجدت أنه مفهوم مركب من ثلاثة عناصر، فكرة وقرار وكيفية، فكرة تملك عقل إنسان وقلبه، وقرار بأن يبذل كل ما يستطيع في سبيلها، بالإضافة إلى الكيفية التي يتم بها البذل، وهذه الأخيرة هي ما قد تحول إنساناً إلى أسطورة من أساطير التاريخ. وعبر هذا الثلاثي (الفكرة والقرار والكيفية) يمكن تقييم أية تضحية. هل الفكرة صائبة؟ هل قرار تنفيذ الفكرة كان هو الأفضل؟ هل كيفية تنفيذ القرار صائبة؟
والموضوع أعمق من التعرض لأشخاص المضحين، فكثير منهم قد يحمل نوايا حسنة، أول ما يعنينا هو الفكرة التي وراء التضحية، فبعض الأفكار لا تجد سبيلاً للتسلل إلى عالمنا إلا من خلال المضحين، فهي أفكار سفاحة، تودي بحياة أشخاص أو تستنزفهم ثم تطرحهم أرضاً كمضحين عظماء، لتقول لنا في خبث.. انظروا .. كم أنا عظيمة جديرة بأن أكون موضع تضحية!! لقد صرَعَتهم ثم قدَّمَتهم لنا كأبطال!!
فالأفكار في البداية تسكن عقل إنسان، ثم تجعله يتحرك في سبيلها، ثم تقتله بيدها حين تسول له أن يبذل روحه في سبيلها، ثم تمر على جثته ببرود متسربة إلى عقول الآلاف الذين تحلقوا حول الجثة. فالأفكار تقتل عشرات الضحايا لتسكن رؤوس مئات الآلاف. فيا له من إجرام!!
فلنقف بالمرصاد لتلك الأفكار التي تريد أن تخترق عقولنا على رماح التضحية، مهما كان سحر الفكرة، سنحتجزها وننقيها مما اختلط بها من عرق البذل ودم الفداء، لننظر إليها عارية مجردة من ملابس الخديعة. وبعد أن نكشف عليها سنتخذ القرار، إما أن نؤذن لها – أو لبعض أجزائها- بالمرور؛ أو نطردها – أو بعض أجزائها- من عقولنا بلا رجعة، سواء كان المضحون في سبيلها أحياء يرزقون، أو أموات يتمددون على صفحات كتب التاريخ. أي إننا من الآن فصاعداً سنقرأ كل قصة عن التضحية باعتبارها جريمة استنزاف واغتيال شخص، إلى أن يثبت العكس. أن الفكرة كانت بالفعل تستحق التضحية من أجلها.
عندما تقرأ في كتاب عن شخصية ضحت.. "انتبه"، فربما تكون مقدماً على عملية نصب واحتيال على عقلك.. ثق تماماً أن هناك كثيرين ضحوا بالفعل تضحيات يحتذى بها، كما أن هناك كثيرين ضحوا تضحيات كارثية. وقلما ذكر التاريخ أنهم اعترفوا بأخطائهم. وفي قصة هتلر خير شاهد. لأن المضحي بطبيعته شخص عنيد آمن بشيء وضحى من أجله، وليس سهلاً أن يعترف بعد كل ذلك أنه ضحى على الطريق الخطأ. فهو يستميت في الدفاع عن تضحيته، ويقاتل من أجل تبريرها بشتى الطرق، وهو على أتم الاستعداد لخوض معركة جديدة من التضحيات نضالاً عن تضحيته السالفة، وهكذا يقع في فخ التضحية.
والآن .. دعونا من "الفكرة"، باعتبار أن الفكرة فعلاً جديرة بالتضحية، ولننتقل إلى العنصر الثاني.. "القرار"، هل كان قرار التضحية هو القرار المثالي؟! فقبل أن نصفق للمضحين الذين تعجبنا مبادؤهم يجب أن نتساءل.. هل كانت التضحية قراراً رشيداً؟ أم أنها عاقبة سوء التقدير؟! هل كان الموقف الذي ضحوا فيه يقتضي التضحية كخيار أم أنهم ذبحوا القرار السديد كأضحية يتقربون بها إلى مبادئهم؟! فالتضحية قد تعكس اختلالاً في تحديد الأولويات.
إن خديعة التضحية تجعلنا أحياناً نمنح ثقتنا لأولئك الذين ضحوا كثيراً في حياتهم من أجل المبادئ والأفكار، بحجة أنهم أمناء على المبادئ، والمضحون جديرون بالاحترام، أما الاقتداء بهم أو منح الثقة لهم فيتطلب وقفة عميقة. فالمضحي قد يكون جندياً صلباً عنيداً، لكن التضحية لا تمنحه بالضرورة جدارة القيادة.
فها هو مدير يضحي بوقته ويتنازل عن أجازته السنوية وراتبه الإضافي، لكنه في النهاية لم ينجح سوى في حشد العداوات تجاه مؤسسته. ما معنى التضحيات عندما تتراكم في مسار غير فعال- إن لم يكن مسار التراجع إلى الخلف؟ عندها تكون هذه التضحيات هي "الخديعة الكبرى"، فهي شيطان التغيير الذي يقبح الحسن ويحسن القبيح. فيجعل من صناع القرارات الخاطئة أصناماً.. فقط لأنهم ضحوا!! فلا يجرؤ أحد على نقدهم، وترى المدافعين عنهم يرمونك بذلك السؤال.. من أنت حتى تنقدهم أو تحاسبهم؟!
كم من أفكار قاتلة انتشرت رغم سوئها وقلة فاعليتها، والسبب هو تضحية حملتها.. فتعلق الناس بأولئك الأبطال وسلموا بكل ما قالوه أو كتبوه، واستنُّوا بكل ما مارسوه.. وهذه هي "خديعة التضحية".. فهي الباروكة الشقراء التي تغطي صلعة القرارات الخاطئة، فتفتن الناس محاولة التلاعب بعقولهم.. ودور مزلزلي العقول هو نزع تلك الباروكة وإظهار ما تخبئه التضحيات الخداعة من مثالب..
إلى من ضحوا على طريق المباديء… تضحياتكم لاشك تثير الانتباه وتستدعي التأمل وتعكس مدى قوة عزائمكم، لكنها أبداً لن تخدعنا، سنمحصها بدقة، لأنها قد تكون هي عينها دلالة القرارات الحمقاء، والتصرفات الرعناء، وتفويت الفرص التاريخية التي لا تتكرر.. فعذراً إن لم نصوت لكم كقادة، لأننا لن نضحي بعقولنا.
وائل عادل
13-01-2010