الجمعة, 1 يناير 2016
كوكب الأسماك

أول ضحية على الكوكب

قسم: كوكب الأسماك
أضيف بتاريخ: 1 يناير 2016

أحضر البائع كيسًا شفافًا، ملأ ثلثه بماء من الحوض، ثم بدأ يطارد الأسماك بشبكته لينتقي لي أول نزلاء يسكنون كوكب الأسماك الجديد الذي أعددته. وضع الأسماك في الكيس، ثم ملأ ثلثيه بالهواء حتى يعطي مساحة في الكيس لتقليب الهواء في الماء فيتنفس السمك. ثم أحضر كيسًا أسود وضع فيه كيس السمك، حتى يغلق على السمك أي منفذ للنور.

حملتُ الأسماك وخرجت من المحل، كم كان صعبًا على نفسي أن يكون أول استقبالي لضيوفي الجدد في كيس صغير يحيط به السواد. أهكذا تستقبلهم الحياة الجديدة؟! هممت بمخاطبة الأسماك، لا تبتئسوا.. لا أريد إيذاءكم بهذا الظلام، فالظلام هو سر بقائكم على قيد الحياة الآن.. فأنتم شرهون في التنفس.. والتنفس الذي يفترض أن يكون سر الحياة سيكون هو سر هلاككم إن تماديتم فيه… أما في الظلام فسيقل معدل الحركة، وتقل معه نسبة استهلاك الأكسجين.

لكن كيف أوضح لهم هذا؟! كيف أوضح لهم أن المنع أحيانًا هو عين العطاء، والقسوة البادية قد تكون رحمة سيالة. لا جدوى.. كل ما يمكن فعله هو أن أهرول نحو البيت لأنقلهم لعالمهم الجديد. حيث الماء أنقى، والغذاء أوفر، والصخب أقل.

وصلت البيت، لكنني لم أضع الأسماك مباشرة في الحوض، أخرجتها من الكيس الأسود، وتركتها في الكيس الشفاف يطفو على سطح الحوض. اعتبرت الأسماك هذه جريمة أشد ترويعًا من الأولى، فهي ترى البيئة الجديدة النظيفة، ولا تستطيع الانتقال إليها.. لكن ماذا أفعل؟!. كانت هذه نصيحة البائع!!

فدرجة حرارة الماء الذي كان فيه السمك، تختلف عن درجة حرارة الماء في حوضهم الجديد، والخصائص الكيميائية مثل درجة الملوحة والحموضة تختلف. لذلك يجب اعتماد التدريج في تغيير بيئة السمك. فيُترك كيس السمك ليطفو على سطح ماء الحوض الذي سينقل إليه، وبالوقت يكتسب ماء الكيس نفس درجة حرارة ماء الحوض، كما يوضع قدر بسيط من ماء الحوض الجديد داخل الكيس.. وبذلك نقي السمك الصدمات التي تنتج من التغيير المفاجيء في خصائص البيئة.

لكن الأسماك لم تكن تعلم بذلك، كانت أشواقها عظيمة للحرية والعيش في عالم نظيف، خاصة أنه لا يحول بينها وبين هذا العالم سوى جدار رقيق شفاف. لم تنتبه أن الحائل الفعلي بينها وبين العالم الجديد لم يكن جدار الكيس الشفاف، بل خصائصها وطبيعة تكوينها التي تقتضي التدرج في الانتقال. لم تميز الأسماك بين الرغبة والقدرة، رغبتها في العيش في عالم جديد، وقدرتها واستعداداتها للوصول إليه.

كان ثمة خلط بين النقلات الجذرية كوجهة وبين المسار المتبع للوصول إليها فتريده بدوره جذريًا لا صلة له بالقديم تمامًا، وهذا ممكن في حالات وكارثي في حالات أخرى. ففي حالتنا كان نقل السمك من بيئة مكدسة بالأعداد، شحيحة الغذاء، مشبعة بالأمراض إلى بيئة صحية أفضل هي نقلة جذرية للسمك، لكن المسار نفسه يراعي تهيئة حدوث هذه النقلة لتمر بسلام، فالمسار المتدرج لا يعني أنه دائمًا غير متجه لنهايات جذرية. ربما نظن ذلك لأننا اعتدنا المسارات المتدرجة في الوجهات الخطأ، فأصبح التدرج كمسار مدانًا بأي شكل.

بدأت سمكة تصرخ في البقية، ما هذه المهانة؟! لماذا تخافون النقلة المفاجئة، هل تهابون الموت؟ كل النقلات العظيمة التي مر بها أجدادكم كانت عبر موت المئات.. إنه طريق معلوم منذ القدم يمر عبر التضحيات.

كانت حجتها سليمة، فقديمًا كان الناس ينقلون الأسماك مباشرة إلى الحوض الجديد دون هذا التدرج، كانوا بدورهم يقولون أن هذا هو قدر النقلات الكبرى في حياة الأسماك، ستموت الآلاف، وتنجو فقط الأسماك ذات المناعة العالية. كان الانتقال الأفضل لا يتم إلا عبر الموت الجماعي.. وحجتهم أن هذه من المسلمات التاريخية!!

وبذلك كان التاريخ يغتال المستقبل، والماضي يسحق الخيال، وقصور العلم يبدد أي فرصة في التعلم واكتشاف مسارات جديدة، حتى جاء من اكتشفوا كيفية إحداث النقلات بأقل الخسائر، وأصبح ما كان قديمًا قدرًا محتومًا يعد خطأ جسيمًا. ولم يعد موت المئات من الأسماك في عرف محترفي هذه الهواية تضحية مقدرة، ولكنه استهتار جاهل مذموم. تبدلت الفلسفة من الانتقال عبر آلاف الأسماك إلى المستقبل، إلى الانتقال بآلاف الأسماك نحو المستقبل.

تمكنت السمكة الساخطة من مغافلتي وقفزت من الكيس فور أن وضعته على سطح الماء لأعادل درجة الحرارة، كانت تتهم أقرانها بالجبن. ليتها انتبهت أن اختبار الكيس لم يكن اختبار شجاعة، بل اختبار علم، وليتها واجهت جبنهم بشجاعة الأذكياء، لكنها واجهته بشجاعة ممزوجة بالغباء. فقفزت في الماء… لم تتحمل، فإذا بها تتلوى وتتخبط في جدار الحوض.

تجمعت بقية الأسماك عند جدار الكيس تتابع من ورائه ما يجري بذهول.. كانت هذه أول ضحية على كوكب الأسماك. بل بدأت الحياة على الكوكب برائحة الموت.. بسبب سمكة اختارت من التاريخ لقطة الموت.. فكانت لها!!

وائل عادل

17-12-2015


اترك تعليقك




جميع الحقوق محفوظة لـ أكاديمية التغيير Academy Of Change | تصميم وتطوير: سوا فور، المؤسسة الرائدة في تطوير تطبيقات الويب.