قسم: آفات العقل الثوري, جديد الأكاديمية
أضيف بتاريخ: 17 فبراير 2015
لم تكن الثورات المعاصرة ميلاداً للشعوب فقط، بل أيضاً مست نفحاتها أنظمة فاسدة، طورت منهجها لتعتمد بعض أجنحتها الثورة كأدة لتحسين أوضاعها، أو للحصول على حصة أكبر من النفوذ، أو لتصفية حسابات.. أو.. أو..
لم يعد توسيع دائرة المتمردين على النظام لغزاً يبحث عنه الثائر فحسب، فقد تجد طرفاً في النظام يسعى لتوريط طرف داخل النظام في ممارسات فاشلة لتوسيع دائرة الغضب. فيعمل على إشعال الثورة أو إعطائها دفعة. فهل فعلاً يمكن لجناح في نظام مستبد أن يدعم ثورة؟ ولماذا؟
النظم ليست بمنأى عن ممارسة الفعل الثوري، بل ودعمه. خاصة حين تكون الثورة القائمة ضعيفة في أفكارها وأدواتها والشريحة التي تمثلها. ويمكن السيطرة عليها لتحقيق مكاسب لطرف في النظام. وخاصة إن احتكرت النظم العمل النوعي الثوري، مراهِنة على حس المراهقة الثوري الذي سينسب لنفسه ما لم يفعل، أو يبارك ما لا يعرف.
فالنظم في مأمن طالما أن النقاشات السائدة للمقاومة لا تتجاوز الجدل حول هل العنف أفضل أم اللاعنف؟ أو هل كان الأولى ترك الميادين والساحات أم البقاء فيها؟! هذا هو منتهى الخيال الثوري المتاح. فلماذا لا يُستغل إذن؟! ولماذا لا تُستثمر “الثورات الضعيفة”؟! ليس إيماناً بالثورة كقيمة تنادي بالحرية والعدالة والكرامة؛ ولكنها الثورة كوسيلة. ونحن هنا أمام مفهوم يختلف عن مفهوم الثورة والثورة المضادة. ولكنه مفهوم “اعتماد الثورة” كأداة حوار وضغط بين مكونات النظام، للحصول على المزيد من المكاسب وتحقيق النفوذ.
كنا نقرأ عن تصدير الثورات للشعوب، لكن يبدو أن الثورات الشعبية المعاصرة نجحت في تصدير الثورة للنظام!! لتعتمدها أجنحته في صراعاتها البينية. ولتتحول -بشكلها الضعيف- إلى أداة ابتزاز وتهديد تلوح بها أطراف النظام لبعضها البعض. وكأننا أمام مفهوم جديد لعبارة “الثورة مستمرة”، فهي مستمرة من داخل النظام وخارجه، مستمرة عليه وبه في ذات الوقت. والأرجح القول “الثورة مُعتمَدة”.
لكن اللعب بالثورة كاللعب بالنار، قد ينتهي بكابوس، فالثورة الضعيفة يوماً ما ستقوى وتخرج عن الطوق.. إن وعت ذاتها، ووعت موقعها من لعبة النظام!!
إن أردت اختبار وعيك بالثورة، هل هي ثورة في إطار النظام أو ثورة عليه.. فانظر هل أنت في انتظار تغيير ستحدثه السلطة ذاتها أم بديل تقدمه المقاومة؟! هل تعول على أدوات السلطة أم أدواتك؟! قديماً كنا نسمع أن الناس تنتظر بيان قائد الثورة.. فهل تنتظر البيان الأول لقائد الثورة أم تأمل في بيان من قائد النظام!! فمن القائد إذن؟!
كذلك إن أردت معرفة طبيعة ثورتك ونمط تعامل النظام معها؛ انظر إلى المحطات المفصلية فيها. هل كانت من فعل الثورة وإمكاناتها؟ أم أن المرجح أن طرفاً ما في النظام هو الذي كان يقوم بالمهام التي لن تقوم بها الثورة؟ ابحث عن المشاهد التي كانت تندلع فيها الثورة ثم تنطفيء الجذوة فجأة.. عن المعارك التي كنت تخوضها بنفسك وأنت مدرك أن شيئاً ما يشعلها.. وهو حتماً ليس أنت..
يمكن أن تريح عقلك وتقول أنا الذي فعلت كل شيء.. ليرد عليك آخر .. بل أنا .. الكل ينسب لنفسه فعلاً خارج حدود خياله وأدواته. فليتشبث كل بنصره الذي يدعيه.. فهذا في حد ذاته كفيل بالإعراض عن التفكير في الإعداد لثورة خالصة. ولماذا تعد والنصر سهل أتى من قبل بدون تخطيط أو إعداد؟!
رغم أنك لو تأملت لوجدت آخرين خططوا لتحديد جرعة النصر التي أسكرتك وألهتك. حتى ظننت الملائكة تحلق بأجنحتها، وهي التي تقوم بالمهام النوعية التي تثير إعجابك. ولو كنت تحسست الأجنحة لعلمت أنها في أغلبها ليست سوى أجنحة في النظام!!
جيد أن تنضم أجنحة من النظام للثورة، فالثورات بحاجة إلى ذلك.. لكن هل هو انضمام أم استخدام؟! لأنه “الثورة الضعيفة” كتقنية يمكن أن تنضم إلى ترسانة أدوات أجنحة النظام. تزيح بها من تشاء وتدعم من تشاء. تشعل الأرض لتدفع المزيد للغضب، أو تبتلع الغضب لتعزل الثورة عن الشارع.
لكل مسار مزاياه وعيوبه وتكلفته. ولست هنا في مجال ترجيح. فليس خطأ أن تختار مسار “الثورة الضاغطة” التي تنتظر بيان النظام بعد كل معركة. المهم التعرف على هذا المسار جيداً.. فهو مسار إصلاحي يتنكر في زي ثورة. حتى لو حاول الخداع مستخدماً لغة الثورة العنيفة متخيلاً أنه بذلك طوى صفحة سابقة. هذا الخطاب التصعيدي لا يعني أنك أمام ثورة تتحكم في مصيرها.. خاصة إن وجدت نفسك أمام الكثير من المجموعات التي تشجعها ولا تعرف عنها شيئاً.. فلا تدري أي هذه الأدوات من صنع الثورة وأيها من صنع النظام؟! كم حصة النظام فعلياً من الثورة وحجم استثماره فيها؟!
يمكن للثورة الضاغطة ضعيفة الفكر والأدوات أن تحدث نجاحات تدريجية، فضغطها – بدعم من داخل النظام – يؤدي إلى إقالة مسؤول أو تغيير رئيس أو فتح أبواب الحريات. كما يمكن من خلال الممارسات الثورية بناء قدرات المجتمع المقاوم القوي في مجالات شتى، وتلك خطوة على طريق الاستغناء عن خدمات النظام الثورية النوعية. كلها أمور لا يستهان بها، وهي بالتراكم تحدث تغييراً تدريجياً لا يخلُ من قفزات، إذا ما قورن بالمسار الإصلاحي الدستوري. المهم أن تكون التضحيات تتناسب مع المسار وطريقة عمله في إحداث التغيير. فلا تدفع تكلفة ثورة جذرية تفوز بالضربة القاضية، في حين أن المنتج هو ثورة ضاغطة تكسب بالنقاط، وتراهن على الفرص المتجددة، بالإضافة إلى عامل الزمن.
أما إن أردت مسار ثورة تنطلق من مشروع ورؤية للتغيير وإقامة البديل، وتتحكم في أدواتها، ولا تتعلق أبصارها بخصومها الذين يلقون بيان انتصارها؛ فهذا يحتاج إلى كلام آخر، في الغالب لا يطيقه الكثيرون من المتعجلين الذين يريدون الثورة.. “الآن”.
وائل عادل
12/2/2015