قسم: آفات العقل الثوري, جديد الأكاديمية
أضيف بتاريخ: 7 فبراير 2015
من أخطر ما يصاب به العقل الثوري النزعة للتفكير بشكل تكتيكي دائماً، فهو يبحث عن الوسائل لا عن الاستراتيجيات والمسارات.. وبسبب هذه النزعة قد يقع في أزمة قراءة التجارب التغييرية باعتبارها سلسلة من التكتيكات التي قادت للنجاح، وليس سلسلة من الاستراتيجيات والمسارات الصحيحة.
إن تتبع الوسائل التي استخدمت في تجارب التغيير والمسارعة إلى تطبيقها معزولة عن سياقها يحول الثورة |لى دمية في يد التاريخ يوجهها كيفما شاء، لا سبيلاً يوصل للمستقبل الذي تريده المقاومة..
لن تنبئنا التجارب دائماً عن التكتيكات التي استخدمت خطأ، فقط عقولنا من سيخبرنا.. فالتغيير لم يكن في كل مرة سلسلة من التكتيكات الصحيحة.. وليس مطلوباً منك أن تحاكم التجارب السابقة بقدر ما هو مطلوب أن تحاكم نفسك.. على أي أساس اخترت هذا التكتيك.. لأن جيفارا استعمله؟ لأن مانديلا ذكره في يومياته؟ أوَ كلما وجدت شيئاً فعلوه فعلته؟! هل إن سألتك لماذا تقف كل مرة أمام المرمى وتسدد بعيداً؟! تجيبني لأن اللاعب المشهور فعل ذلك في إحدى مباريات كأس العالم، وقد صُنف كأفضل هداف!
من أمثلة التكتيكات التي قد تُنتزع من التجارب السابقة حرق مولدات الكهرباء التي تمد عموم المواطنين بالطاقة. ولهذا التكتيك أكثر من زاوية نظر في قراءته:
الأولى أنه استُخدم في تجارب كانت المعسكرات معزولة فيها عن بعضها، فالمقاومة لها مناطقها الخاضعة لها التي تغير منها على مناطق النظام، مثل الشائع في حروب العصابات. لم يدر في خلد جيفارا ضرب مصالح مؤيديه. فهو يتمركز في الريف في منطقة داعمة له، وعندما يقوم بتخريب فهو لا يضر معسكره هو.
ويمكن النظر لهذا التكتيك أنه تم في حالات تميزت بالتأييد الشعبي للمقاومة، مثل حالات الاحتلال أو التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، التي تؤيد فيها الغالبية القضية، وهنا يعاد النظر للمشهد من جديد.. فغالبية السكان تعتبر كل عمل ثوري رسالة من المقاومة للنظام، وبالتالي هي تتقبلها باعتبارها تكلفة يجب أن تُدفع، لا ضرراً يلحق بالناس. وإن كانت هذه النظرة لا تسلم من نقد… هل يتقبل الناس فعلاً ذلك؟!
ويمكن النظر من زاوية السلوك الأخلاقي للمقاوم، فما هي عقيدته النضالية؟! هل كل شيء مباح؟ أم أنه يؤمن بأن النصر الميداني يوازيه النصر الأخلاقي، وهو حريص على الفوز بالاثنين معاً؟! فهناك تكتيكات قد تكون فعالة لكنها لا تنسجم مع رسالة المقاوم. وتحديد المعايير القيمية لن تنبئك به التجارب بقدر ما تنبئك رسالتك والقيم المحركة لثورتك.
ويمكن النظر أيضاً من زاوية أخرى، أنه كان من المراهقات الثورية في بعض التجارب، وأنه بدعة فاسدة تتوارثها الثورات دون وعي. أقرب للفلكور الثوري الذي يُشعر المقاوم أنه بذلك على خطى الأجداد. لكنه عملياً ليس من التكتيكات التي يتبناها ثائر يحرر مجتمعه ويدرك أن رأس ماله الناس. صحيح أنه يزعج النظام، لكنه كذلك قد يتكيف معه لاحقاً. وكما يمكن أن يُشعر الناس بالسخط على النظام الفاشل، فهو كذلك قد يجعلهم يلعنون المقاومة ويتكيفون مع الظلام. وبدلاً من دعم الثورات تروج تجارة المولدات!!
لذلك يميز المقاوم بين مسار “عزل النظام عن الشعب” ومسار “إخضاع النظام بالشعب”. المسار الأول يجلب التأييد الشعبي والثاني يستخدمه. ولكل مسار تكتيكاته الأنسب. ويجب أن تنسجم التكتيكات مع المسارات المختارة لا أن تتمرد عليها. فإن كان النظام له تأييد واسع والمقاومة لا تحظى بدعم الغالبية، فسيكون هدف المسار عزل النظام الفاسد عن الشعب؛ وتصبح الأولوية لوضع معيار “أثر التكتيك على الناس” قبل اختيار التكتيك.. وهل سيتبع التكتيك الذي يضر الناس – إن كان لابد منه- تكتيك آخر يضبط الصورة ويصحح المشهد؟! بحيث لا تعزل المقاومة نفسها عن الشعب. فسلوك المقاوم لا يؤثر فقط في النظام؛ وإنما في الأرض التي تمنحه حرية الحركة.. المجتمع.
إن التغيير هو فن إبداع المعادلات الصعبة، وهو عمل لا يحتاج إلى “البصمجية”.. هو فن تصميم التكتيك الذي يبعث بالرسائل السليمة للنظام والمجتمع وصفوف المقاومة والعالم الذي يتابع. أنت لست أسيراً لتكتيكات من سبقوك حتى ولو علا شأنهم في عالم المقاومة.. فليس كل ما فعلوه كان صواباً، وليس كل ما فعلوه صواباً يصلح لك.
لم أكتب لأقول افعل ولا تفعل.. فلكل حالة خصوصيتها. ولكني أقول افهم ماذا تفعل.. فيمكن تلافي الكثير من الأخطاء إن آمن العقل الثوري أنه يبحث عن المسار قبل التكتيك، وأنه يستكمل ثورته هو لا ثورة جيفارا أو مانديلا. أما إن ظل يفكر بشكل تكتيكي متجاهلاً النظر للمسار للكلي، فأتوقع أن نسمع يوماً عن حركة “الاعتصام في الحمام”.. فقد أشاع أحدهم أن مانديلا رؤي قبيل الانتصار بيومين يدخل الحمام كثيراً.. وهو يُرجع سر انتصاره إلى هذا الأمر.. إذن فلنجرب تكتيك “الاعتصام الحمام” والمكوث فيه طويلاً.. ولنرد بقنابل الغاز على من يهاجمنا.. هكذا انتصر مانديلا.
وائل عادل
5/2/2015