قسم: سلسلة التغيير والمسارات
أضيف بتاريخ: 3 فبراير 2015
إن لعمليات التغيير مسارين رئيسين عادة ما يختار القادة ومتخذي القرار أحدهما، بما يتناسب مع المشروع الأساسي المصمم لكسر عقدة الصراع التي إذا حُلت تتفكك معها بقية التحديات. [1]
المسار الأول: المسار العفوي التراكمي الطويل
حيث يسلك المجتمع مساراً طويلاً لإحداث عملية التغيير، تدفعه في ذلك التحديات القاسية التي يمر بها، وهو المسار الذي قد يمتد لعقود أو حتى لقرون عديدة[2]، كما نلحظه في التحولات الكبرى التي اجتاحت القارة الأوروبية عبر تراكم تاريخي طويل امتد لما يزيد على الأربعة قرون، وفي هذا المسار لا تستطيع إحدىقوى المجتمع أن تزعم أنها وحدها التي أحدثت التغيير، ولكن التغيير في واقع الأمر هو محصلة فعل قوى متعددة، سواء كانت تلك القوى متحالفة أو متصارعة أو متنافسة.
وفي أغلب الحالات التي تسلك فيها المجتمعات هذا المسار التراكمي الطويل لا يكون انتهاجهم هذا المسار نتاج تفكير أو تأمل أو نظرية عمل؛ وإنما نتاج عجز تلك المجتمعات عن تحديد أداة التغيير والحسم الرئيسة لمجابهة التحديات التي تواجههم، ونتاج عجزهم عن وضع برنامج زمني محدد لإحداث العملية التغييرية. ومن ثم تكون استجابتهم لهذه التحديات باللجوء إلى العمل في المجالات والمساحات المتاحة، تبعاً للقواعد التي يضعها الخصم، فكلما فُتح أمام تلك المجتمعات مسار للفعل سلكته، لأنها تفتقد وجود استراتيجية مقصودة محددة. ويرتفع شعار “الزمن جزء من العلاج” كمحاولة لتبرير هذا التأخر في إحداث التغيير.
المسار الثاني: المسار المدروس الاحتشادي القصير نسبياً
وهو المسار الذي قد لا يتجاوز العقد أو العقدين، حيث تقرر المجتمعات سلوك المسار القصير نسبياً لإحداث عمليات التغيير والتحول المأمولة. وهو ما نلحظه في بعض التجارب التغييرية كتجربة الرسول عليه الصلاة والسلام والتجارب المعاصرة الصينية والماليزية واليابانية.
ففي هذا المسار يتم إعداد دراسة استراتيجية لخارطة الصراع[3]، ويتم تحديد الرؤية، والمشروع المحوري، وعوامل الضعف والقوة لدى طرفي الصراع، والمراحل المتوقعة للصراع، وسياسة كل مرحلة. وهنا تبدأ المجتمعات المقاومة في صورة حملات متصاعدة تنتهي بتحقيق الهدف الذي قامت من أجله المقاومة، والذي يبدأ بحل عقدة الصراع، وخروج المجتمع من عنق الزجاجة الدكتاتورية. ومن ثم يمتلك إمكانية وضع برنامج زمني محدد لإحداث العملية التغييرية.
وهذا المسار القصير تختاره المجتمعات نتيجة توفر نظرية عمل واستراتيجيات محددة لدى الفاعلين السياسيين والقادة الاجتماعيين، حيث تمكنها قدرتها من تحديد أداة الحسم والتغيير الرئيسة، وتستشعر خطورة تأخير الفعل على إنجاز المشروع التغييري.
وعادةً ما تسلك المجتمعات هذا المسار نتاج رفع القوى الاجتماعية والسياسية – منفردة أو متحالفة – شعار “نحن الذين سنعلق الجرس”[4]. ومن ثم تنطلق الجموع مسترشدة بوعي وقدرات مؤسسات وهيئات المجتمع المختلفة لتحقيق التغيير المنشود.
على أي أساس يتم الاختيار بين المسارين؟
يتم اختيار المسار التغييري بناء على
1- مشروع التغيير الحضاري.
2- طبيعة الحاملين للمشروع.
3- مثلث المسافات الزمنية.
أولاً: التغيير الحضاري مشروع دولة
فالتغيير الحضاري بالأساس مشروع تتبناه الدولة، ولا يتم بمعزل عن إرادة سياسية تتبنى إطلاق المشروع. فإذا كانت الدولة مقاومة للمشروع، فلا تستطيع طوائف المجتمع إطلاقه إذا لم تتوفر لديها القوة لدفع إدارة الدولة كي تتبنى المشروع، فأنى لمجتمعات أن تخط مشروعاً بينما الدولة التي تتخذ القرار تخط مشروعاً آخر ربما في عكس اتجاه التغيير.
ثانياً: طبيعة الحاملين للمشروع
أما في حالة عدم امتلاك القائمين على سدة الحكم مشروعاً حضارياً، ورغبة المجتمع في التقدم والانطلاق للتنافس في السباق الحضاري، حينها تأخذ مجموعة على عاتقها تحقيق رغبة المجتمع وتحاول أولاً الوصول إلى سدة الحكم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، وماوتسي تونج في الصين، وهتلر في ألمانيا، والثورات التي اجتاحت العالم العربي في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين.
ثالثاً: مثلث المسافة الزمنية
وعادة ما تبدأ تجارب التحول بصرخات تطلقها عقول المفكرين، تلك الصرخات تقطع مسافة زمنية حتى يلتقطها قادة التحول، وقد تطول (أو تقصر) المدة الزمنية التي تنشأ بين إطلاق الصرخة والتقاط القادة لهذه الأفكار ليصوغوها في برنامج عملي، فإذا وفقوا ونجحوا في الوصول إلى قمة الهرم تقصر المسافة، وإذا أخفقوا تسود حالة من الفتور في الفعل حتى يظهر غيرهم، أو يعيدوا هم أنفسهم الكرة من جديد[5].
لذلك فالمجتمعات ليست بين خيار تراكمي سلكته الثورة الفرنسية، وبين خيار احتشادي سلكته الصين، بل تؤثر هذه المسافات الزمنية إما في اختزال الوقت لتحقيق التحول، أو تمديده لأجل غير مسمى، فالفرنسيون لم يقرروا ابتداء اختيار المسار الطويل، وإنما حركة الفعل العملية هي التي رسمت هذا المسار بمجمل النجاحات والإخفاقات.
وليس للموضوع علاقة بنضج البشرية بقدر ما له علاقة بنمط التفكير والفعل، فتجربة الرسول صلى الله عليه وسلم -حتى يصل ببرنامجه إلى الحكم ويستقر- استغرقت 23 عاماً، بينما تجربة الفرنسيين – والتي كانت بعده بقرون – استغرقت قروناً، حتى تبلورت الأفكار في فعل ثوري جسدها.
إن مشروعات التغيير الحضاري لا تتم في معزل عن إرادة الدولة، وما يقوم به المفكرون وأصحاب المبادرات والمشاريع من قوى المجتمع المختلفة لا يتجاوز تهيئة الأرض للفعل، وتقديم نماذج رمزية تبعث الأمل، ويظل التحدي الأكبر أمام هذه المبادرات في مدى اتساقها مع برنامج الحكومة القائمة، فإن لم تنسجم معها، يكون التحدي في كيفية كسر هذه المجموعات للقيود التي تحول بينها وبين أن يصل برنامجها إلى سدة الحكم. وإلا فإنها ترتكب خطأً كبيراً حين تعد الجماهير بما لا يمكنها أن تفي به، وهو أن هذه المبادرات التحتية ستحدث وحدها التغيير، دون أن يتبلور هذا المشروع في برنامج دولة.
أحمـــد عبد الحكيـــم
د/ هشـــام مرســـي
4/3/2007
——————————————————————–
[1] هذا النموذج مقتبس بتصرف من كتاب القواعد الاستراتيجية في الصراع والتدافع الحضاري “قوانين النهضة”، د. جاسم سلطان،أم القرى للترجمة والتوزيع والنشر، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى 2005، صـ 195.
[2] استقراء تجربة الثورة الفرنسية في التغيير للدكتور جاسم سلطان.
[3] لخص جين شارب في كتابه “البدائل الحقيقية” الخارطة الاستراتيجية للصراع مع الدكتاتوريات باستخدام حرب اللاعنف، والتي تتكون من تحديد طرفي الصراع، واستراتجيات كل منهما، والعوامل المساعدة، ومراحل الصراع.
[4] يحكى أن مجموعة فئران كانت تعيش في أحد البيوت هانئة سعيدة بما تحظى به من بقايا الطعام، ولكنها فوجئت ذات يوم بقط كبير ينغص عليها عيشها، يحرمها الطعام، ويطاردها، ويوقع الأذى بها. وتشاورت مجموعة الفئران فيما بينها، وقررت أن تشتري جرساً، لتعلقه في عنق القط، وهو نائم، حتى إذا ما غافلها ذات يوم، سمعت رنين الجرس، ركضت، لتنجو. وهكذا تبرعت كل فأرة بما تملك، وتمّ شراء الجرس، وتحيّنت مجموعة الفئران فرصة نوم القط، لتعلق في عنقه الجرس، ولكن ههنا واجهتها مشكلة كبيرة، إذ من سيقوم من الفئران بمثل تلك المهمة الصعبة؟ وأصبح هذا السؤال “من سيعلق الجرس” يقال للسؤال عن الأبطال الذين يتصدون للمهام الصعبة والتي يراها غيرهم مستحيلة، بينما يرونها هم ممكنة الحدوث.
[5] لذلك نستطيع تحديد هذه المسافة الزمنية في:
– المسافة الزمنية بين صرخة المفكر واستجابة القائد لها في حالة أن المفكر ليس هو القائد كما في أفكار ماركس الذي طرح أفكاره في انجلترا ثم انطلقت الثورة في روسيا عندما تلقفها قائد.
– المسافة بين المحاولة والتمكين: فربما خاض القائد تجربة لكنه فشل في تحقيق أهدافه، وقد يعاود الكرة وينجح، أو يكون الإخفاق كبيراً بدرجة يتعذر معها لنفس القائد أو المجموعة استكمال الطريق بعد ذلك.
– المسافة الزمنية بين المحاولات: فقد تسارع مجموعة جديدة بقيادة جديدة بإضافة محاولة جديدة، وقد تتأخر هذه المحاولات بحسب مدى حيوية المجتمع، وجدية الأفكار والإيمان بإمكانية الفعل فيه.