قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 23 يناير 2015
لن يوقفك سواك
بينما هو يترنح في الطريق، ويردد كلمات غير مفهومة من فرط سُكْرِه؛ إذا به يصطدم فجأة بعمود على الرصيف… شُجَّتْ رأسه، فأخذ يكيل السباب إلى العمود..
عاد إلى الخلف عدة خطوات بعد أن رفع القارورة بيمينه، وألقى في جوفه المزيد من الخمر… تقدم للأمام بحذر وكله إصرار على الترنح، فاصطدم بالعمود ثانية… خلع قميصه ومزقه من شدة الغضب وأخذ يكيل سيل العبارات النابية إلى العمود.
تراجع مرة أخرى عدة خطوات إلى الخلف… ثم تقدم للأمام بصدره العاري فأحسن التصويب في هذه المرة أيضاً واصطدم بالعمود.
تجمع الناس حوله في محاولة لمساعدته، لكن الكبرياء منعه، كان كل ما يتمناه من الواقفين أن يشتركوا معه في سب العمود الذي يمنع المارة من العبور.
لم يكن هذا هو المسطول المخمور الوحيد، فكم من عقل مغيب يظن أن أحداً من البشر يمكن أن يعرقل مسيرته، ويوقف تقدمه، فيردد عبارات من قبيل .. “ماذا نفعل؟ إنهم يمنعوننا؟؟ إنهم لا يريدون لنا أن نتقدم؟؟ ألا لعنة الله عليهم!”.
ويخيل إليّ أن المسطول كان يرى العمود واضعاً يده في خصره، يقف على الرصيف في ثبات متوعداً إياه: “فَلْتَمُر إن استطعت”.. وربما كان التركيز على هذه الفكرة هو سبب اصطدامه به كل مرة.
وددتُ لو سألْتُه.. كيف استطاع العمود أن يوهمك أنه قادر على منعك؟! ولماذا لم تتمكن من إقناعه أنك قادر على استئصاله من فوق الرصيف؟! أو ضربه في ركبته ليحني ظهره الشامخ، أو تصويب حجر نحو رأسه ليفقأ عينه المنيرة. فصراع المسطول مع العمود صراع إرادات واختبار هيمنة كل منهما على عقل الآخر.
الفرق بين هذا المسطول وبقية المارة هو نفس الفرق بين المفعول به والفاعل، فالمارة يعرفون أن العمود عقبة، لكنهم يدركون أكثر أنه لن يحول بينهم وبين هدفهم بحال من الأحوال، قد يخطئون ويصطدمون به مرة، لكنهم يعلمون أن لديهم خيارات أخرى سوى خلع القميص والتراجع إلى الوراء، وتكرار المواجهة بنفس الطريقة. فبإمكانهم تفادي العمود أو النزول من على الرصيف وإكمال السير..
وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد؛ فالمسطول سيُعَلِّم أبناءه من بعده أن العمود عدو مبين، وهاكم الدليل التاريخي.. قميص ممزق ورأس دام.. هل هناك دليل أوضح من ذلك؟!.. وهذه هي الطريقة الفعالة لتفريخ أجيال من المساطيل. وإن استمر الحال هكذا ستعبد الأجيال أعمدة الإنارة، تخافها وترجوها، وهذا أحد أسباب تحويل التافهين إلى أصنام، يطوف حولها المساطيل مرددين أذكارهم على أوتار مسابحهم…”سيمنعونني .. سيمنعونني.. سيمنعونني”.
وأقولها شهادة أمام التاريخ، ليس العمود هو من أذهب عقل المسطول، فقارورة الخمر كانت خياره وحده. وهي التي قادت تفكيره، حتى إنه بدأ يفكر… إن تمكنتُُ من المرور وتفاديتُ هذا العمود، فماذا أفعل في كتيبة الأعمدة المتراصة خلفه على طول الطريق؟! إنه يشعر بالحصار الكبير، فالأعمدة تحتل المدينة لتعرقله!! وليس له من الأمر شيء.. فيا لتعاسة الحظ!
سمعت تصفيق الناس فاستعدت انتباهي.. لقد تراجع المسطول للمرة العاشرة إلى الوراء… ثم تقدم للأمام، لكنه في هذه المرة تمكن من تفادي العمود.. سعدتُ ثم حزنتُ.. أسعدني أنه حرَّر عقله وتمكن من المرور، وأحزنتني كلمته.. فقد نظر خلفه قائلاً للعمود: “أشكرك أنك أصغيتَ لندائي وتنحيتَ عن الطريق”!!
وائل عادل
5/5/2009