الجمعة, 23 يناير 2015
زلزال العقول

وحدوووه

قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 23 يناير 2015

اخرج من التابوت

لست مبالغاً حين أقول أنني رأيتهم في المقبرة، قد لا تصدقونني.. أو تظنون أنه شُبَّه لي.. لكنني حقاً رأيتهم ينهضون من قاع الأرض، تغشاهم الأتربة وتفوح منهم رائحة نتنة، بعضهم بدا كهيكل عظمي مخيف.. لست أدري كيف حدث هذا.. وكيف اختلط الأحياء بالأموات.. وهل سيكون هذا الحدث هو عنوان المعركة المعاصرة؟؟ أم أن عالم الموت سيحتل عالم الحياة؟!

فبعد أن دَفَنَّا صديقاً عزيزاً لنا بدأ بعض الزملاء يتحدثون.. بعد فترة من حديثهم الممل تأملت ملامحهم.. لم يكونوا مثلنا.. هتفت فيهم.. كيف خرجتم من داخل المقبرة؟؟ وكم عددكم؟؟

اكتشفت هؤلاء الأموات عبر ذلك الكم الهائل من التراب الذي يتفجر من أفواههم حين ينطقون، أو يطمس كتاباتهم حين يكتبون، أما القاسم المشترك الذي كان يجمعهم كلهم هو تلك المقولة: “الأمل في الجيل القادم.. في أبنائنا”.

لم يدر هؤلاء الطيبون أن آباءهم لطالما رددوا نفس المقولات، وأنهم بالفعل “الجيل القادم” الذي بشر به آباؤهم.. ترى لماذا يكررون ما فعل الآباء ويقومون بترحيل الواجب المنوط بهم إلى الجيل الذي يليهم؟!

أزعجتني الفكرة، فهرعت إلى الشباك لأستنشق بعض الهواء النقي.. رأيت سيدة تحمل جنيناً في بطنها وتمسك بيد زوجها في سعادة واضحة.. لعلهما الآن يتحدثان عن مستقبل طفلهما المرتقب.. هممت أن أهتف بهما.. احذرا الخيانة، فثمة صنف من البشر يرمي بالمهمة العظيمة على جيل في الأرحام، تودان لابنكما حياة أفضل لكن لهذا الصنف قول آخر.. إنه يريد لنفسه هو أن يعيش في عالم أفضل، حيث يرتاح عقله من التفكير، ويكف عن الحركة الفعالة. وكيف لا و”الأمل في الجيل القادم”.. أما طفلكما فدوره معروف، فهو من “الجيل القادم” الذي سيصحح أخطاء من سبقوه ويقوم بالمهمة التي يشتد تعقيدها جيلاً بعد جيل. لقد أوكل بعض أبناء جيلنا مهمتهم إلى الأموات، سواء الذين يرقدون في الأرحام، أو الذين يرقدون في القبور من زعماء التاريخ.. لم يعد جيلنا في نظرهم هو “الجيل المنتظَر”.. إنه “الجيل المنتظِر”..

لا تروقني فكرة أن يُنعى إلينا جيلنا وهو في قمة حيويته وفتوته، فلا يزال لديه الكثير ليقوله والمزيد ليفعله. فلينفض عن عقله التراب ويستجب لصرخة البعث، بعث الروح والفكر فيه من جديد. وليَعِد الجيل القادم أنه إن لم يُدخله بوابة النصر، فإنه على الأقل سيقدم له ماضياً مشرفاً يمكن البناء عليه.

لا يمكن التفكير في الجيل القادم بمعزل عن دورنا، إذ نحن صناع ماضيه، ذلك الماضي الذي سيشكل جزءاً مهماً من وعيه بمستقبله، فأي ماض سنهديه إياه؟! هل سيأتي الجيل القادم ليجد مواداً أولية يستطيع أن يستعملها في البناء؟ أم سيُفاجَأ بأنه من مواليد الصحراء شارع المتاهة عمارة رقم ما لانهاية؟! إن لم نحسن إذن صناعة مستقبلنا فلنُتقن صناعة ماضي الجيل القادم.

رأيت الأموات يحاصرونني في كل مكان.. كنت أميزهم حين يرمشون فتتطاير ذرات التراب من أعينهم المنطفئة، التي لا تتطلع إلى المستقبل. والتعرف على الأموات بيننا لم يكن سهلاً، إذ اكتشفت بمضي الوقت أن الأموات ليسوا فقط من يرددون بألسنتهم مقولة “الأمل في الجيل القادم”، فقد يدينها بعض الناس بألسنتهم لكن ممارساتهم تدعمها، حيث يتحركون في دوائر مغلقة من التكرار عديم الجدوى، فظاهرهم الحماس والحيوية، لكنهم يوقنون في قرارة أنفسهم أن أعمالهم لن تقود إلى شيء ذي قيمة حقيقية في تغيير الواقع، وحين تقترب منهم ستلفحك أعاصير الأتربة، إذ يعيشون في عالم الأموات، وينفذون مشاريع لا تؤثر في واقع الأحياء.. اللهم إلا نتن رائحتها المنفرة لأغلب الناس. ولا تغرنك زينة الأشكال والعطور، فالأموات يتنكرون في أفضل الثياب أحياناً، لكن الأعين الثاقبة سرعان ما تدرك أن هذه البهرجة ليست إلا تراباً، وأنف اللبيب لا يخطيء أبداً رائحتهم، وعقل الفطِن يعي أن سياراتهم ليست إلا توابيت متحركة.

احترتُ كثيراً.. كيف يخرج الموتى من مدافنهم؟! فاكتشفت أن “التَََُرَبِي” دافن الموتى هو السبب، إنهم بعض القدوات من النخب والمثقفين الذين يتبعهم الناس، أولئك الذين لم يفلحوا في إبداع رؤية لتغيير الواقع، وهم في نفس الوقت لا يريدون أن يخسروا موقعهم في أعين الناس، وبدلاً من أن يقولوا لا نعرف حلاً، ينفون وجود الحل. فهم يبررون عجزهم عن إيجاد بدائل لدفع عجلة الحياة بتزيين موت العقول واعتباره فضيلة، وترحيل الفعل الجاد إلى مجهول باعتبار أن ذلك ما تقتضيه الحكمة، وتحويل السكون إلى إله التأني والفطنة والوعي. فإذا بهم يقودون الناس إلى مكان مريح في مقبرة الأفكار، صاغوا من الموات والاستسلام فلسفة، حتى أنك تجد في كل مكان سرادقات عزاء تبشر بالجيل الجديد.

هناك مشاريع تتطلب بالفعل تواصلاً بين الأجيال، وهي المشاريع الحضارية الكبرى، حيث يشيد كل جيل درجة في السلم الحضاري، ويأمل أن يأتي الجيل التالي ليضيف درجة جديدة وهكذا.. وعلى الجيل الحالي – قبل أن يتحدث عن دور الجيل القادم- أن يحدد أي الأشواط سينجز تحديداً، وأي الأشواط يتمنى أن تأتي الأجيال القادمة لتتمها. حينها فقط يصح أن نأمل أن يستكمل الجيل القادم المشروع، وحينها فقط يمكن أن نميز بين التبشير بالجيل القادم كتعبير عن اليأس أو الفعل الممنهج.

كان الطفل الممسك باليد الأخرى للأب يقول له: “بابا .. بابا .. أريد هاتفاً بكاميرا”..

لقد حددتْ الأجيال السابقة أقصى آمال هذا الطفل، كان يفترض أن تختلف أمنيته تماماً.. فثمة تباطؤ تم نحو خلق عالم أفضل، نتيجة تقاعس أجيال، أو اختيارها الخيار الأسوأ، فبعض الاكتشافات العلمية لم تُعتمد إلا بعد مئات السنين، وإذا حسبنا الفجوة الزمنية بين أهم الأطروحات العلمية وبين اعتمادها والاعتراف بها؛ لاكتشفنا أننا كنا سنجد شكل الأرض مختلفاً تماماً، لو كان كل جيل سبقنا أدى دوره كما ينبغي، واختار الخيارات الأفضل. فتقاعُس بعض الأجيال عن الدفاع عن تلك الأطروحات أو تطويرها أدى إلى وجود فراغات تاريخية في التقدم تقدر بآلاف السنين، ولو دار التاريخ دورته بشكل نموذجي يؤدي فيه كل جيل دوره؛ لتقدمت البشرية بفارق قرون عديدة على ما هي عليه الآن، ربما كنا من سعداء الحظ الذين يسافرون عبر الزمن أو يولدون على ظهر كوكب آخر لم تصبه حمى الاحتباس الحراري، سامح الله الأجيال المتكاسلة التي بشَّرت بقدومنا..

لا تبشروا الآن بالجيل الجديد من بعدكم ناعين أنفسكم؛ بل بشروا بأنفسكم.. وامنحوها فرصة لتحيا من جديد، فوأد النفوس والعقول محرم. وإن كنتم لا تدرون ماذا أنتم فاعلون بكل هذا الكم من التراب الذي يحيط بنا؛ فنصيحتي أن نشيد به المباني لا أن ندفن به الموتى، فضلاً عن أن نحثوه فوق رءوس الأحياء.

اعلموا أن خياركم اليوم سيؤثر في مسار البشرية كلها.. فهو الذي سيحدد أمنيات وبرامج عمل أجيال قادمة.. قاوِموا موتى الجيل.. أخرجوهم من توابيتهم العقلية.. أيقظوهم.. أو ادفنوهم.. المهم أن يتسربوا هم ومواتهم من حياتنا.. قبل أن يجتمع الأموات الحقيقيون في قبورهم، ليتابعوا ما يجري فوق الأرض مرددين في أسى.. وَحِّدوووووه… الفاتحة على روح المرحوم… أنتم السابقون ونحن اللاحقون!!

وائل عادل

21/4/2009


اترك تعليقك




جميع الحقوق محفوظة لـ أكاديمية التغيير Academy Of Change | تصميم وتطوير: سوا فور، المؤسسة الرائدة في تطوير تطبيقات الويب.