قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 23 يناير 2015
التفسير المريح
اشتهر بيتها بإعداد أفضل كوب عصير طازج.. كنت في الشارع المجاور لها، فعزمتُ على زيارتها للاطمئنان عليها… لا.. ليس الاطمئنان فقط.. لا أنكر رغبتي في تناول عصيرها اللذيذ.
طرقتُ الباب وقد خفضتُ بصري لأسفل… فُتح الباب… وإذا بي أمام قدم فيل خشيت أن يخطو للأمام!!
– لا يا بني… أنا أعلم ما أعاني منه… إنها حالة بسيطة، وهذا الانتفاخ في قدمي سببه أنني أكلت اليوم بقوليات ولحوم. لا تقلق سيكون كل شيء على ما يرام. لا داعي للذهاب إلى الطبيب.. أشكرك على اهتمامك.
– هل أنت متأكدة أن هذا الانتفاخ بسبب البقوليات واللحوم؟
لم تعر السؤال اهتماماً، فلم تكن تسمع سوى الأسئلة التي تستطيع أو تريد الإجابة عليها، فتأكدتُ أنها تخمن سبب الانتفاخ، فالذهاب إلى الطبيب بالنسبة للعجوز يعني كشف المستور.. كانت تهاب إجراء أية أشعة أو فحوصات دورية خشية اكتشاف أمراض.. كانت تميل إلى التفسير المريح.. إلى إرجاع كل ألم أو انتفاخ إلى البقوليات واللحوم. وربما أكلت من تلك الأصناف متعمدة لتزيد التفسير إحكاماً، ولتُمَكِّن راحة البال منها، فهي الآن تعرف علة مرضها!!
واللجوء إلى التفسير المريح قد يكون سببه الخوف من المجهول، فالعجوز تخشى اكتشاف مرض عضال، وقد يكون السبب هو خداع الأيديولوجيا، حين يتوهم معتنقوها أنها وحدها تمنح التفسيرات الحقيقية، أو يكون السبب هو تبرير الاستمرار في سلوك بعينه، أو الشعور بالعجز أمام توابع واستحقاقات أي تفسير جديد، فقد زجر “كونت” المجهر في القرن التاسع عشر وأدانه، لأنه فضح زيف الصورة البسيطة لقوانين الغازات، لقد أقض المجهر مضاجع العلماء ونال من التفسير المريح.
عندما ألححتُ على العجوز كي تذهب لاكتشاف الأسباب الحقيقية بدت منزعجة، قطبت جبينها، وحملت عصاها متوعدة، فهي تضيق بكل من يخرجها من العالم الوهمي الذي خلقَته لنفسها.
أتاها ضيف ونحن جلوس.. نظر – بعد أن جلس- إلى قدمها، قال لها: “لا تقلقي يا “حاجَّة”، البقوليات واللحوم تفعل أكثر من ذلك”..
انفرجت أساريرها… نظَرَت إليَّ باستخفاف… سَأَلَتْ الضيف: “ماذا تحب أن تشرب يا “أمير”؟… بالتأكيد تريد العصير.. هاهاها”… ولم تلتفت إليّ رغم مكوثي معها ما يزيد على نصف الساعة… عرفت أنها تدني منها أولئك المريحين الذين يرددون ما تود سماعه. فهي لا تستطيع أن تعيش بلا تفسير، لكنها تريد علة تشعرها بالأمان، فغياب التفسير كابوس فظيع، والمهم أن تعثر على أية علة، وكل تفسير صادم تقاومه بقسوة طاردة إياه بلا رجعة. وبالفعل خرجتُ ولم أعُد، دون أن أتناول حتى كوباً من الماء بعد أن جف حلقي!!
كانت الأعداد تتوافد لزيارة العجوز، وكان مقابل الحصول على مشروب من العصير الشهي هو التأكيد على تلك العلة المنتقاة، وإدانة البقوليات واللحوم، ليستمر خداع الذات بِتبَنِّي ذلك التفسير المريح، ثم ترديده كثيراً وتكثيفه في الذهن وترويجه في الوسط المحيط حتى يصبح نظاماً مهيمناً على التفكير، يقصي أي تفسير آخر.
وليت الأمر يتوقف عند التفسير، فأصحاب التفسير المريح يتحمسون للتعامل مع هذه العلة المريحة، فيضعون خططاً ويقيمون مشاريع بناء عليها. فيضيعون العمر والجهد، حيث يحيون على الوهم ويتحركون من أجل نصرته. مؤسسين “مشاريع الوهم” التي تعالج العَدَم، إنها عين الوهم وإن بدت شامخة لأنها لا تعيش في عالمنا، فهي تسبح في عالم الوهم المريح، وتحتفل بانتصار الوهم على الحقيقة. حشدت أفواجاً مريحة أمام العجوز، هزت المجلس بهتافها المريح “فلنقاتل اللحوم”، بعد أن شربت العصير المريح.
لم أغير موقفي، ولم أركب الموجة معلناً الحرب على البقوليات واللحوم، لأنني أؤمن أننا عندما ننال من التفسير المريح ندفع بأنفسنا دفعاً نحو اكتشاف العلل الأخرى، عندما نقاوم التفسير المريح كمنهج تفكير فإننا نعلن بجرأة طي صفحة من تاريخ السذاجة والعبث والهزائم، واقتحام مرحلة الوعي والجد والانتصارات.
لا أنكر أنني افتقدت العصير اللذيذ، لكنني تيقنت بعد أسبوع أن التفسير المريح يهب طمأنينة مؤقتة لا تلبث أن تفر أمام طغيان الأسباب الحقيقية… فقد ماتت العجوز!!
وائل عادل
24/11/2008