قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 22 يناير 2015
استراتيجية البحث عن مخرج
انتشلت بسرعة منديلاً ورقياً أجفف به سطح مكتبه بعد أن أطاحت يدي بكوب الشاي، وبينما أنا أعتدل في مقعدي إذا بي أطيح بالكوب الثاني ليسقط أرضاً ويتفجر فيضان الشاي.. رآني مذهولاً فأخذ يهديء من روعي مخبراً إياي أن الخادم سيتولى الأمر. لم أكن مذهولاً لانكسار الكوب وتدفق الشاي. لم تدهشني سوى حركة الشاي على الأرض، كان الشاي يتشعب في مسارات لم أرها قط.. فقد ظننت الأرض مستوية. لا أدري أيهما أصح؟! هل شق الشاي الأرض شقاً أم إنه مجرد كاشف لطبيعتها المليئة بالشقوق؟؟!! وهل مالت له الأرض خصيصاً أم إنها بطبيعتها مائلة؟؟!!
إن بقعة الشاي لا تسير عبثاً كما يبدو للوهلة الأولى. إنها تبحث عن أي طريق ممهد – صغر أو كبر- لتسلكه. ومن مزاياها أنها لا تستهين بأي شَق يمكن أن تنفذ منه، بل إن سرعة السائل تزداد كلما ضاق المجرى الذي يتحرك فيه.
أعجبتني سرعة الشاي وبدأت أشجعه، وازددت إعجاباً به وهو يصِف الأرض، فالأرض حقاً مائلة، وبها بعض الشقوق، وها هو الشاي يخترق الأرض. يبدو أن أشياء كثيرة نشهد عليها زوراً بأنها مصمتة لا يمكن اختراقها.
امتد خيط الشاي حتى وصل إلى الباب، كأنه يقول لي “من هنا”.
سمعت صرخة سيدة. فتركت الشاي المسكوب لأفتح الباب الذي أشار إليه خط الشاي الحر من ثوان، إنها أم مكلومة تبحث عن طفلها التائه. التف الناس حولها لا يدرون من أين يبدأون البحث، وإلى أين يتجهون. تحركوا بشكل عفوي، كل في اتجاه قد اختاره، إنهم متحدون في الهدف، لكنهم موزعون يبحثون عن مسار صحيح لتحقيقه.
أدركتُ أنه حين يغيب تصور الحل فإن إطلاق الطاقات لن يعني بالتأكيد توجيهها نحو سبيل يقيني معروف سلفاً، كل ما يمكن فعله هو التبشير بأن الحل قابع في ذات الواقع المراد تغييره، والمطلوب هو اكتشاف الممكن، وفهم طبيعة الأرض، فروح المرحلة هو “البحث عن مخرج” لا “تحقيق المخرج“، عبر كسر الأواني التي تُحَجِّم السوائل عن الانطلاق لتقوم بدورها في كشف طبيعة الأرض، وإطلاق الطاقات لتكتشف السبل، وتسبر أغوارها، وتشير إلى فرص كامنة في أماكن قد يعجز العقل عن التنبؤ بها. فها هي السوائل تنساب لاهثة وراء مخرج ولو كان في شق صغير لا يؤبه له.
بدا لي أن مرحلة “البحث عن مخرج” لا تعتمد على البدء بتجمع مائي كبير يبدأ من نقطة واحدة يقينية، لأنه بذلك سيقيد طاقات أخرى مجبراً إياها على السير معه في طريق محتمل وليس حتمياً. لكنها تبدأ من نقاط محتملة، لتنتهي في نقطة أكيدة، أي أنها تبدأ من كل نقطة ممكنة، لتجتمع في النهاية حيث تم العثور على مخرج. إنها حركة الملهوفين الباحثين عن فؤاد الأم الشارد، بل حركة الطبيعة حين تعمل من تلقاء نفسها. ألست ترى بقعة الماء تتسع، تجاورها بقعة أخرى، ليلتحما في النهاية في بقعة واحدة كبيرة دون سابق اتفاق؟؟!!
ويوم أن تتحطم الأواني المعطِّلة للطاقات، وتُكسر أغلال العقل لتنطلق المبادرات في شتى الاتجاهات؛ ستتضح خارطة الفعل، تلك الخارطة التي سيكتشفها المجتمع ذاته في وقت قياسي، بحسب تشكل حركة السوائل فيه. وبحسب شكل النقوش التي ستبوح بها الأرض. وبحسب المنافذ التي ستتمكن من عبورها. إن التبعثر استراتيجية فعالة لاكتشاف الممكن، والتجمع هو الخطوة اللاحقة التلقائية لتحقيقه. فقرار سكب الماء في كل مكان نفعله بمحض إرادتنا، أما اتحاد البقع فيتم تلقائياً إن توفرت شروطه الموضوعية.
كذلك ستتضح بتحرير الطاقات حقائق الأشياء، فها هي آنية ممتلئة بالعسل، ظاهرها حلو وشفاء، لكنها فور أن تنسكب أرضاً إذا بها بطيئة جداً إذا ما قورنت بالماء، قد يكون السبب في بطئها كثافة الأيديولوجيا، أو القيادة المثقلة بالأحمال. لست أدري!!
كل الذي أدريه أن مرحلة تحرير الطاقات جوهرها كشف الفرص وإمكانات الذات، من خلال اختبار مدى إمكان النفاذ من المسام وسرعته. وهذا الاختبار يتطلب مرونة ومغامرة، لذلك تقوم به بقع كثيرة العدد صغيرة الحجم، متنوعة في مصدرها متفقة في هدفها، كل بقعة مسئولة عن حماية ذاتها، وقد تندمج مع بقع أخرى مجاورة إن لزم الأمر. وإذا كان من الممكن لكوب ماء أن يقوم بالمهمة؛ فلا داعي لسكب برميل كامل على الأرض في نفس المكان. خاصة أن الإخفاق محتمل في بعض الأحيان.
والإخفاق في رحلة البحث والاكتشاف يمارس دوراً إيجابياً، فالمحاولات الفاشلة تهتف في بقية البقع.. “هنا طريق مسدود“، إنها تلك البقع التي لا يزول لونها، ولا تختفي لزوجتها من الأرض، لتصيح بصمتها “انتبهوا فقد مررنا من هنا”. وعلى مواقع مرور تلك البقع الجسورة يجب أن تشيد النُصب التذكارية، إذ أنها تقي تيار السوائل الدخول في المسارات الخطأ. كذلك تنبئنا حركة الطبيعة أن بعض القطرات ستمتصها الأرض فلا يُرى لها أثر، كلها ظواهر يجب ألا تسبب صدمة للناظر، أو تصيبه بهاجس التحكم والسيطرة.
فعملية “تحرير الطاقات” التي تهدف إلى “البحث عن مخرج” لا تعرف التحكم والسيطرة، حتى وإن كان هذا التحكم بحجة منع ارتكاب السوائل لحماقات، فحركة الطبيعة لن ترحم عابثاً مثلما ستكافيء النبهاء، فهناك بقع من الماء سينتهي مصيرها في بالوعة الصرف الصحي، وأخرى ذكية ستتمكن من الوصول إلى صنبور المياه في عقر داره… نعم.. ستنطلق من الصنبور لتؤلم عين خصم يغسل وجهه صباحاً، وهناك قطرات أخرى لن تُنسى.. اعْتَقَلها في عينه مطبقاً جفنه بعد أن غسل وجهه.. يوم تحريرها هو اليوم الذي تخرج فيه من عينه.. يوم يذرف الدموع!!
وائل عادل
5/8/2008