قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 22 يناير 2015
أزمة أفراد أم نظم؟؟
“في البداية كنت أضع الورقة في جيبي ولا ألقيها في الشارع استجابة لتعليمات أمي… بعد ذلك صرت أعاني من أزمة نفسية، فها أنا أمسك الورقة بيدي، أكاد ألقيها في الشارع. لكن نصائح أمي تطاردني، فإذا بي أحجم عن تشويه الشارع بها، غير أني لا أجد مكاناً ألقي فيه الورقة، ولم يعد في جيبي متسع، بدأت أتلفت حولي خشية أن يلحظني أحد، ثم ألقيت بها على أحد جوانب الرصيف”.
سألته بعد أن أمسكتُ بقوة بعمود أستند عليه في الحافلة: لاشك أنك بعد ذلك كنت تتألم كلما تذكرت هذا الموقف.
رد علي متهكماً وهو بالكاد يحفظ توازنه: بعد ذلك صرتُ أفتح نافذة السيارة لألقي بالورقة دون أن أبالي… كم كنت أحمق عندما فكرت في وضع تعليمات أمي موضع التنفيذ.
قلت له وقد تشبثت بجسده هو في تلك المرة بعد هزة قوية: مستحيل.. تعليمات أمك هي الصحيحة… لا تخدع نفسك.
أجابني بعد أن دفعني: بل تعليمات النظام هي الواجبة الاتباع..
كانت أمي تطلب مني أن أقف في الطابور بنظام، وألا ألقي ورقة في الشارع، ولكم أخبرتها بحيرتي، فمن أحق بالإصغاء والبر؟! تعليمات الأم أم النظام؟؟!! فتعليمات النظام مفادها لا مفر من أن تلقي الورقة في الشارع، وأن تزاحم الناس في الطابور. إذ لا توجد أماكن مخصصة لإلقاء القمامة، أو تقنية محددة تعتمد فكرة الطابور.
فكرتُ ملياً.. هل علينا أن نزجر ونؤنب الأفراد لسوء سلوكهم أم إن هذا هو سلوك الأمر الواقع لا السلوك الأفضل؟! نظرت إلى من حولي في الحافلة… رأيت رجلاً تبدو عليه علامات التعب، ويتدلى شاربه على شفته في حذر.. هل هذا الشخص البسيط هو المستحق للتأنيب أو حتى التوجيه؟! هل يكفي حث الناس على سلوكيات رائعة، أم يجب إيجاد النظم والقوانين المناسبة لجعل هذه السلوكيات واقعاً؟!
قطع سيلَ الأفكار وقوف مفاجيء للحافلة، اصطدَمْتُ بالسيدة التي كانت بجواري… نظرتْ إليّ وقد أطلقتْ مخالبها تكاد تفترسني قائلة: ألا تنتبه يا أستاذ؟!
احمَّر وجهي.. قلت آسفاً: عفواً يا مدام.. لم أكن يوماً من الأيام تصادمياً.. غير إنه ما باليد حيلة. هذه ليست أخلاقي أو سلوكياتي… لكن النظام هنا في الأتوبيس يسلبك الإرادة..
قاطعتني بغضب: أولاً أنا آنسة ولست “مدام”… ثانياً أرجو أن تسدي إليّ جميلاً وتوقف خطبتك… ليس هذا وقت التفلسف.
صرخ السائق: يا جماعة لا تقفوا أمام الباب… حتى يتمكن الركاب من النزول…
حينها صاح أحدهم: وهل ترانا نقف أمام الباب بملء إرادتنا لنعرقل الحركة؟! أم أننا بقدرة قادر وجدنا أنفسنا أمامه؟!
نظرتُ إلى وجه السائق عبر المرآة الأمامية شاكراً إياه أن منحني الإجابة… فما جدوى أن تطلب من شخص في حافلة متكدسة ألا يسد الباب؟! يبدو أن خَلْقَ النظام يأتي أولاً..
ثم عدتُ وطردتُ هذه الترهات من بالي، فالنظم الصالحة لا تطبق إلا على أفراد يستحقونها، وهؤلاء الحمقى الذين يحيطون بي في الحافلة هم المخطئون، ولابد من حملات توعية كبيرة لهم في كل مكان حتى يغيروا سلوكهم، فالمجتمع ليس إلا أفراداً، إن حسن سلوكهم حسن المجتمع. ولتكن الحملة الأولى بعنوان “لا تضغط على حذاء زميلك في الحافلة”، أما الحملة الثانية فعنوانها “لا تقل للآنسة يا مدام”، وليكن شعار الحملة الثالثة “أن تتعلق على الأعمدة داخل الحافلة كالقرد خير لك من أن تسد الباب”، والحملة الرابعة “برجاء التقليل من معدل التنفس حفاظاً على الرائحة الحضارية للحافلة”.
حُشِرَتْ الحافلة في شارع ضيق مليء بالمطبات. تكدست الأعداد فيها حتى برزت الوجوه للخارج من النوافذ، وامتلأت السلالم بالبشر… خلتني أقف على قدم واحدة، فالأخرى يبدو أن أحدهم أخذها بالخطأ وهو يلملم شتاته كي ينزل!!
نظرت إلى أحد سعداء الحظ ممن نالوا شرف الجلوس على مقعد، رأيته مبتسماً ويتمايل في رقصة سخيفة، هممت بتوبيخه، لكنني تريثت، فلم يكن ذنبه أنه رقص رغم أنفه.. فقد أبطأت الحافلة وهي تتجاوز مطباً تلو آخر في ميوعة منقطعة النظير، حينها فَكَّرْتُ، ترى من الذي يرقص؟! هو أم هي؟! فإن كانت هي.. فلماذا “تتقصع” هكذا؟! لم تتراقص في شارع محترم وقد ضاق عليها ثوبها فبرز ركابها من الأرداف أمام أعين المارة؟! بدأ الركاب يلعنون الحافلة، يكادون يرجمونها، ولكن مهلاً.. هل تسعى للوقوع في الخطيئة؟! أم أنها تسير وفق تعليمات الطريق؟! أليس من الأولى إذن إصلاح البنية التحتية للطريق ثم الحكم عليها؟! فالبنية التحتية هي التي تحكم سلوكها.
والبنية التحتية للسلوك هي النظم (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية….) التي تنظم الحياة، والسلوك هو انعكاس لكفاءة النظم وفاعليتها وفلسفتها في إدارة الحياة. فالحافلة تتأثر في مشيتها بالشارع، ومهما أرادت أن يستقيم سيرها فلا مفر أمامها من طريق الالتواء والميوعة بحسب ما يمليه عليها الطريق…
كنت كلما نظرْتُ من الشباك ورأيت الناس في الشارع خلت الأخلاق في انهيار، فلم يعد في الناس خير، لكنني تيقنت أن العيب ليس بالدرجة الأولى في هؤلاء الطيبين، فقد ارتكبتُ في الحافلة بعض أخطائهم التي لم أذكرها هنا. أدركت أن زيهم ولغتهم وسلوكهم لا يعكس ذاتهم بقدر ما يعكس ما هو أعمق.. أدركت أن شيئاً ما خفياً كان يقود تصرفاتي، أن الفرد ليس هو وحدة بناء المجتمع الأولى،[1] أن ما لانراه يهيمن على ما نراه، فالأكسجين الذي لا نراه هو الذي يمنحنا فرصة جديدة كل لحظة كي نعيش، أما النظم التي لا نراها فهي التي تحدد لنا كيف نعيش!!
نزلتُ من الحافلة بعد عناء… تنفستُ الصعداء… التفت إليها مبتسماً بعد أن أعدتُ هندمة ثيابي.. فالآن فقط عرفتُ إجابة السؤال.. من أين يبدأ التغيير؟؟ من تمهيد الشارع أم لعن الحافلة الراقصة؟؟
وائل عادل
27/7/2008
————————————————————————–
[1] حتى في ظل النظم المتطورة توجد مخالفات وتجاوزات من بعض الأفراد، لكن بصفة عامة حيثما وجدت النظم الصالحة وجد المجتمع الصالح، فالفرد الذي لا يحترم إشارة المرور في بلد يغيب فيه النظام المروري نجده يحترم الإشارة عندما يسافر إلى بلد آخر يضع نظماً عادلة وصارمة للسير والمواصلات، وتظل هناك فئة من الناس لا تتطور بعد انتقالها إلى مجتمعات تحكمها نظم صالحة، وربما يرجع ذلك إلى العطب الجذري الذي نال من عقولها ونفوسها في فترة الحياة في ظل أنظمة متخلفة. فتجدها على سبيل المثال تتفاخر بالتحايل على القانون، فنظام “الفهلوة” أصبح جزءاً من تكوينها يجري في عروقها. فالنظم في البداية تلعب دور الموجه للأفراد، لكنها بعد فترة تشكل خلقاً راسخاً لديهم.