قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 22 يناير 2015
حوار بين الشرعية والمشروعية
ذهبت إلى “المكوجي” كي أتسلم ملابسي، قال لي متأسفاً: أعتذر سيدي لقد أُحرقتْ ملابسك. سألته: وما العمل إذن؟ قال لي: اتصل بهذا الرقم سيرد عليك المدير… اطلب منه تعويضاً مالياً..
اتصلت بالرقم فرَدّ عليّ الرجل بأدب… طلب مني أن آتي إلى المحل في اليوم التالي لآخذ مبلغاً اتفقنا عليه. أتيت في الموعد… سألت “المكوجي” عن المبلغ، أجابني أن المدير لم يأت بعد، ولم يترك شيئاً، عليّ إذن أن أحاول الاتصال بالمدير مرة أخرى عبر الهاتف.
استمرت المحاولات حوالي خمس مرات، في كل مرة أذهب إلى “المكوجي” ثم أكلم المدير، لكن دون جدوى.. حتى أنه في المرة السادسة لم يرد.
قررت ألا أسلك الطريق الذي حدده هو لي، طريق الذهاب إلى “المكوجي”، ثم الاتصال الهاتفي. فعليّ أن أعمل بطريقتي أنا، وطالما أن المدير يريد أن يلعب معي “استغماية” أو “غميضة” -أياً كانت لهجته؛ فسأضع له قواعد اللعبة.
علقت لوحة قماشية في مدخل الشارع… “المكوجي الذي في نهاية الشارع حرامي… لا تتعاملوا معه… للمزيد من التفاصيل اتصل بي على الرقم التالي”… ثم كتبت رقم هاتفي موقناً أن المدير سيتصل بي إن رأى اللوحة.. وقد كان!!
لقد وضع صاحب المحل قانونه بإحكام ليضمن كل شيء إلا حصول الزبائن على حقوقهم، واختار قناة شرعية -بل أنبوبة – أطالب من خلالها بحقي، وهي الذهاب إلى محله ثم الاتصال الهاتفي به..
أدركت مبكراً أن استعمال قانونه في انتزاع حقي أمر عبثي، لأنه من صنع الخصم، والقنوات الشرعية من نحته، يجب التفكير إذن في بدائل أخرى، واكتشاف قوانين جديدة لم تُكتب بعد.
فالقوانين موجودة قبل أن تُكتب، وعملية الكتابة ليست إلا اكتشافاً ثم تدويناً صريحاً لقوانين تحكم الحياة، أليست قوانين فيزياء الكون موجودة قبل أن يكتشفها العلماء ثم يدونوها؟! وعندما نسن القانون الخطأ؛ نكون بذلك قد أخفقنا في اكتشاف قانون الحياة المختبيء داخلها.
وعندما يمسك خصومنا بمقاليد صناعة القانون؛ يجب أن ننتبه ولا نسقط في فخ الالتزام المطلق بما نحتوه، فثمة قوانين أخرى لم يسجلوها، ودورنا أن نكتشف هذه القوانين ونسعى بكل وسيلة لتدوينها.
وللقوانين المسجلة أصناف، فمنها ما هو عادل تام، ومنها ما هو ناقص يتطلب إتماماً، ومنها ما هو جائر، ويُدرج قانون الاتصال الهاتفي بالمدير في الصنف الثاني، فهو ليس قانوناً سيئاً، لكنه يحتاج إلى من يُتِم صياغته، وكل ما فعلتُه أنني أكملت صياغة نص القانون قائلاً: “إذا لم يتجاوب المدير مع الاتصال علق لوحة في الشارع كي تفضحه”.
إن دور المجتمع تجاه القوانين هو الامتثال للقوانين العادلة التامة، واستكمال صياغة القوانين العادلة الناقصة لتصبح فعالة، وخرق القوانين الظالمة. وعندما نخرق قانوناً ظالماً فإننا بذلك نكتشف قانوناً آخر، إننا نكتب فوق القانون الجائر قانوناً جديداً بخط أكثر وضوحاً، فقانون الخرق هو ممحاة القوانين الجائرة. فالقانون الظالم يقول “احصل على حقك من خلال مسارات يحددها خصمك”، والقانون المكتَشف الذي ستدونه هو “احصل على حقك من خلال مسارات فعالة تختارها أنت”.
وإذا كان مسارك المختار بدوره جائراً، حينها يجب اكتشاف القانون الذي يمحوه، ليُدوَّن بدلاً منه، المهم هو عدم الرضوخ للقانون الجائر بحجة أنه هو القانون المدوَّن.
إن الفرق بين التدوين واللاتدوين، بين قانونهم وقانونك، يمكن أن نطلق عليه الفرق بين “الشرعية” و”المشروعية”، فالقانون المكتوب من قبل المدير يعبر عن “الشرعية”، فمن التزم به قد التزم الطرق الشرعية، أما القانون الذي ستكتشفه أنت فيعبر عن المشروعية، مشروعية أن تقاوم الظلم. فخرق القانون الظالم عمل مشروع إنسانياً لكنه ليس شرعياً وفق القانون المكتوب. لكنك بكثرة الخروقات للشرعية الظالمة تكون قد بدأت محاولة كتابة قانون جديد، وتأسيس شرعية جديدة، ويوم أن تستكمل كتابة القانون الخارق –بالقول والفعل- سيكتسب الخرق “المشروع” صفة “الشرعية”.
كان بعض المطالبين بحقوقهم المسلوبة من ضحايا محل كَيِّ الثياب يرددون.. “سنلتزم بالقنوات الشرعية مهما تكن الظروف”، وعبثاً حاولت إقناعهم أن القناة يجب أن تكون فعالة، إذ ليست العبرة بمجرد وجود قناة، ماذا لو كان الخصم قد سد هذه القنوات ففقدت فاعليتها؟! ماذا لو لم يرد على الهاتف؟! أليس البقاء داخل الأنابيب الشرعية يكرس الظلم؟؟!!
لكنني لاحظت بعد حوار طويل أن البعض تروقهم هذه الأنابيب الشرعية، فهي تحدد حركتهم وتجعلهم يعملون في إطار تقليدي قد اعتادوه. كما توهمهم أنهم يفعلون شيئاً ذا قيمة، خاصة عندما يحني المرء ظهره وينبطح في قاع الأنبوبة محاولاً تسلق جدارها بعزيمة وحماس، وكلما ارتفع في التسلق نادى في الجماهير خارج الأنبوبة الشرعية لعلها تستجيب وتلتحق بموكب الصعود، وكم تسوؤه حالة اللامبالاة ممن هم خارج الأنبوبة، لكنه يصر على استكمال الطريق ولو ظل وحيداً. فيستمر في تسلق جدار الأنبوبة، وما إن يكاد يصل إلى فوهتها حتى يجد نفسه يطفو على بحر من العرق، فيزداد إحساسه بالمسئولية، وبعظم الجهد المبذول، فينادي فيمن معه في الأنبوبة، ها قد اقترب الفرج، وعندما يلامس سقف الأنبوبة تبدأ المهمة الأصعب، وهي فتح الغطاء، لكنه يفاجأ أن الغطاء مفتوح، وما إن يرفعه حتى تلفحه رياح عاتية تسقطه ومن معه في قاع الأنبوبة من جديد، فقد وضع مدير محل كيِّ الثياب يده في جيبه، ثم أخرج المحفظة، ثم فتحها، ثم أخرج منها الأنبوبة الشفافة، ثم نزع غطاءها، ثم نفث في مناضلي الأنابيب الشرعية نذراً من هواء الزفير!!
وائل عادل
29/6/2008