قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 22 يناير 2015
ابحث عن الشباب
قررت ألا أستكمل مع جدي شرح الجانب النظري حول كيفية عمل الكمبيوتر، وطرق نقل المعلومات داخله. إذ كان من الواضح أنه لا يعي شيئاً مما أقول، فجذور البنية الفكرية لكل منا تختلف كلية، بدأت مباشرة معه على مدى حصتين في تعليمه كيفية استخدام الكمبيوتر عملياً، أجهد “الماوس” جدي وهو يحاول مطاردة الملفات في “الكمبيوتر”، بدت عليه علامات التململ… أقسم أن تكون هذه هي الحصة الأخيرة.
حضر العَشاء بعد أن فشلتُ في مهمتي.. ناديت أطفال العائلة فهم ملح الطعام.. أخذ الجميع يأكل في نهم… إلا أن الجد اكتفى بكسرات خبز مع الجبن حتى لا تضطرب معدته… همس أحد الأطفال في أذن الجد.. “جدو.. أنا أشطر منك… أستطيع أن ألعب أية لعبة على “الكمبيوتر” بينما لازلتَ تبحث عن مؤشر “الماوس””… ثم أمسك الطفل بالـ”ساندويتش” وانهال عليه قضماً..
تستطيع المعدة الفتية أن تنهل من أنواع الأطعمة دون تعب، لكن بمرور الوقت وجريان العمر تشترط المعدة كمية وأنواعاً محددة من الأطعمة حتى تستطيع أن تعمل دون تذمر. ويخيل إليّ أن العقول كذلك يتفاوت هضمها للأفكار بحسب عمرها، فكلما كانت “المعدة العقلية” شابة؛ كانت شرهة ولديها جلد وتحمل للأفكار الجديدة، وكلما تقدم بها العمر؛ تبدأ تقنن لنفسها أنواع الأطعمة والمشروبات الفكرية التي تحمل تصريح دخول!!
لذلك من المهم أن ينتبه أصحاب الأفكار الجديدة إلى هذه الطبيعة الخاصة لمعدة العقل، وألا يثقلوا على كل الناس ليجبروهم على تناول أفكارهم، فليس كل إنسان تصلح معدته لهضم أفكارك، لمجرد أنك تأمل أن يقتنع، أو لمجرد أنه صانع القرار الذي يُرجى أن يعدل مساره. فقد كنت أريد لجدي أن يتعلم استخدام “الكمبيوتر”، حتى يستطيع أن يستمع إلى كل البرامج والأغاني التي يحب بدلاً من استخدام الراديو وشرائط الكاسيت، لكنه لم يستجب، وكان دائماً يقول: “يا بني عقولنا تختلف عن عقولكم”، وحتى حين يستخدم الجهاز الحديث فإنه يتعامل معه بمنطق الآلة التي اعتاد التعامل معها، فهو يحرك كل شيء ببطء كما اعتاد أن يحرك مؤشر الراديو. وكلما نظر إلى “الكمبيوتر” يسأل نفسه، ترى أين مؤشر تغيير المحطات؟!
وأساطين الفكر القديم يعيشون صراعاً نفسياً عظيماً إزاء ثورة الأفكار، إذ أنها تنعي إليهم عمرهم الذي قضوه في فكرة ربما أخطأت الطريق، وكلما نظروا إلى تاريخهم السالف؛ كلما يئسوا من استدراك المستقبل، فيؤثرون السلامة راضين بالسير في طريق… أي طريق..
وطَرْحُ الفكر الجديد عليهم والإلحاح به يؤذيهم ويؤلم عقولهم، إذ يدعوهم لتغيير نمط النظر للحياة. وربما لا يكون من الإنصاف إرهاقهم بأطروحات فكرية مختلفة جذرياً، إذ ليس ذلك من الرحمة في شيء. ترى هل من الرحمة أن تطالب شيخاً طاعناً في السن بالجري السريع بحجة أن له قدمين وساقين مثلك؟!
قد يتساءل البعض!! ولكن هؤلاء القدامى هم صناع القرار في مؤسساتهم، وإذا تم التأثير فيهم وإقناعهم فستكون عمليات التحول سريعة وممكنة. لكن تاريخ الثورات العلمية ينبئنا أن الحقائق العلمية لا تنتصر لأنها تقنع المعاندين، فالحقيقة العلمية تُكتب لها الحياة بسبب موت المعاندين فكرياً أو جسدياً، وظهور جيل جديد ينظر بحيادية إلى المسائل المطروحة سابقاً. وهل هُضمت أفكار كوبرنيكس الذي حدد موضع الأرض من السماء إلا بعد قرن من وفاته؟؟!! وهل انتشرت الهواتف الخلوية ووسائل الاتصال الحديثة نتيجة اقتناع الأجيال القديمة بضرورتها؟! أم نتيجة ظهور جيل جديد يتلقفها؟! حتى إنها صارت دمية في أيدي الأطفال.
غالباً ما يأتي تغيير الأفكار عبر هذه الثلة الفكرية الشابة التي تفتحت عيونها للتو على العالم، فتنظر في أطروحات الأقدمين بحيادية. فليس من مصلحتها تَبَنِّي طرح هذا أو ذاك، لأنها على أتم استعداد أن تحدث ثورة في طبيعة النظر للأشياء. إنها ليست منحازة للراديو، بل منحازة لأسرع وسيلة تُسمعها ما تهوى.
وإذا كان هرم المعدة العقلية أمراً طبيعياً كسنة من سنن الحياة؛ إلا أن المزعج هو تلك العقول التي ظاهرها الشباب وباطنها الشيخوخة، أولئك الشباب الذين يحاولون الاقتداء بكبار السن فيما لا يَحسُن الاقتداء به في عالم الأفكار، متوهمين أنهم بذلك حكماء، وما دروا أن كبار السن يمرون بمرحلة طبيعية في رحلتهم العقلية، ترى أحدهم يقول لك: “لعل في عدم استخدام “الكمبيوتر” حكمة يعلمها الكبار”، وقد هالني أمر هؤلاء.. فهل يُعقل أن يقتدي شاب صحيح في طعامه بمريض الضغط والسكر؟؟!! على رواد الفكر أن ينتبهوا لمثل هؤلاء، فهم شباب متقمصون هيئة شيوخ، وُلِدوا بشعور بيضاء، خالوا أمراض المعدة صحة وعافية، وتشبهوا بالمرضى وخاصموا الأصحاء، فلتُبذل الجهود في تحرير أولئك الشباب من حالة “التمارض الفكري“.
إنني أكن احتراماً بالغاً لجدي لأنه اعترف بأن عقل جيلنا يختلف عن عقله، وأننا الأقدر على التعامل مع أدوات العصر، فضلاً عن إنتاج أفكاره، ولطالما نصحنا بأن نأكل جيداً قبل أن تضرب معدتنا عن العمل، ولا أذكر أنه دعاني قط للسير على نهجه في الأكل بعد أن صار مسناً، فليس عيباً في الجد أنه كبر، لكنني أعتب على ذلك الشاب الذي يسأل جده أن يعلمه ماذا يفعل إن وجد “فيروس” في “الكمبيوتر”؟ فقد تغيرت أشكال وأدوات ومجالات الصراعات، وعلى الأجداد أن يسألونا … ماذا أنتم فاعلون؟!! فهذا عصركم وعالمكم وهذه أدواتكم، فأين أفكاركم الناجزة?!
وعندما تعجز أفكار الأجداد عن التصدي للواقع؛ يجب أن نترقب ظهور تصورات جديدة، صارخين مع كوبرنيكس، الأرض تدور حول الشمس وليس العكس، فالتصور الجديد سيخلق ثورة في الفعل، وحينها يجب ألا تتوجه صرختنا نحو الشيوخ، لأن أسس البنية الفكرية التي سيعتمد عليها الثوار تختلف في العادة جذرياً في كثير من مفرداتها عن أسس البنية الفكرية التي بنى عليها الأجداد أفكارهم. وهذا ما يخلق صعوبة في التواصل بين جيل الثورة الفكرية وجيل الفكر المثار عليه. فليُترك الأجداد يمارسون حياتهم التقليدية دون منغصات، خاصة إن كانوا غير مدركين بعد لتفوق الواقع على أفكارهم. على حاملي الأفكار الجديدة أن يديروا أعينهم… وينظروا هناك… على الناحية الثانية من طاولة العَشاء.. هناك حيث تَهضم المعدة الأطعمة بشراهة، حيث يبزغ قرص الشمس الذهبي، وحيث يحتشد الجيل الجديد الرائع المتعطش لفكرة جديدة لامعة.
أما العقول التي هرمت؛ فتحتاج إلى جرعات فكرية مخففة، وإلا أصابها مغص فكري، تليه تشنجات حادة. فقد تبذل عمرك في إقناع الأقدمين بفكرة جديدة ثائرة، فيخدعك خفض رؤوسهم تواضعاً لك… لكن انتبه، إنهم يحنون رؤوسهم من شدة الألم، يضعون أيديهم على بطونهم من فرط المغص، وسرعان ما ينفد صبرهم، وتصبح الأفكار فوق طاقتهم، فتتقيأ معداتهم أفكارك فور انصرافك من أمامهم.[1]
وائل عادل
25/6/2008
——————————————————————–
[1] ليس الحديث هنا عن القابلية الأكبر لدى الشباب دون الشيوخ لقبول الأفكار الجزئية المتعلقة بعلاج أزمة محددة، فلاشك أن للشيوخ خبرات ثمينة يحتاجها الشباب، ما نريد التركيز عليه هو الفاعلية الكبرى للشباب في الاستجابة لنداء التغيير عندما يكون المطلوب هو تغيير نمط التفكير الكلي الذي ننظر من خلاله إلى العالم، حيث يكون الشباب أكثر جرأة وقدرة على التخيل. وقد تناول بروفوسير فلسفة العلم توماس كون هذا الأمر في كتابه بنية الثورات العلمية، وتناول دور الشباب في دعم ثورة آينشتين حينها دون شيوخ العلم. فقد تعودوا منذ بداية دراستهم على النظر إلى الأشياء بمنظار الفيزياء الجديدة، فكانوا لا يقابلون من الصعاب في التخلي عن بعض أفكار الفيزياء القديمة قدر ما يقابل الأكبر سناً. كما يؤكد توماس كون أنه عادة ما كان تغيير الإطار التصوري العلمي يقوم به شباب حديثو السن، أو جدد على المجال الذي يبحثون فيه، فلا يتقيدون بالقواعد السابقة، وتكون لديهم القدرة على العمل وفق قواعد جديدة. ويرى كذلك أن ظاهرة تقبل الشباب للأفكار الجديدة التي ينكرها الكبار في العمل العلمي تكاد تكون فكرة شائعة متداولة في الحقل العلمي.