قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 22 يناير 2015
بين التغيير التدريجي والثوري
خلتنا تُهنا في الطريق ونحن نبحث عن المطعم.. أكد لي السائق أن هذا هو الطريق الصحيح، فشارع “الصبر” لا يوجد سواه في هذه المنطقة.
اتصلت بصديقي لعله يرشدني.. فلا أرى أية آثار للمطعم الذي يُفترض أن نلتقي فيه.
سألني: أين أنت الآن؟ أخبرته أننا في الشارع الذي وصفه لنا.. شارع “الصبر”..
أجاب منزعجاً: لم أقل شارع “الصبر”… قلتُ إن المطعم في شارع “الصقر”، الشارع الموازي للشارع الذي تسيرون فيه، فشارع “الصبر” لا ينتهي إلا عند المقابر.
سألته: وما العمل الآن؟ قال: تعودون في الاتجاه المعاكس وتقطعون الشوارع الجانبية حتى تصلوا إلى شارع “الصقر”.
نظرت إلى السائق بضجر، فقد وصف صديقي له العنوان، لكنه استبدل الباء بالقاف، فليس الصبر كالصقر، وكل متر كانت السيارة تقطعه كان يبعدنا أكثر عن هدفنا، سألته أن يسرع ويدخل من أي شارع جانبي منحرفاً عن مساره الطبيعي، سألته أن يحدث تغييراً جذرياً في المسار.. سألته أن يثور..
فقد تكون الثورة أحياناً علاجاً فعالاً لأزمة التقدم التدريجي في المسار الخطأ. حين لا يقود البناء المتراكم على ما سبق إلا إلى مزيد من الانحراف عن الهدف، حينها نكون في أمس الحاجة إلى الثورة بمعنى التغيير الحاد والجذري في الأفكار ونمط الفعل. أي تغيير المسار بشكل جذري قبل أن تصل المجتمعات إلى الهاوية.
فعندما تسوء الأوضاع، وتعجز التصورات والنظريات السائدة عن تغيير الواقع؛ عندها يتطلب الأمر ثورة فكرية لتتمثل في الواقع في شكل ثورة في الأداء، فالثورة الفكرية استبدلت في العقل اسم الشارع ليتحول من “الصبر” إلى “الصقر”، وثورة الأداء تطلبت انحرافاً سريعاً وحاداً في المسار.
وبعد هذا الانحراف الثوري للمسار يبدأ التقدم التدريجي في تطوير المسار الجديد الذي جاءت به الثورة، فتحسب الخطوات التدريجية في شارع “الصقر” لصالح مشروع التغيير، حيث تُخدم الرؤى الجديدة، وتُطَوَّر النظريات التي صُمِّمت لتغيير الواقع، وبهذا البناء التدريجي للأفكار والمشاريع تتقدم المجتمعات.
لكنها بعد فترة وعند نقطة محددة من الفعل التراكمي قد تصاب بحالة من الجمود، وعجز نظريات ورؤى الأمس عن مواكبة طفرة واقع اليوم، مما يتطلب تغييراً ثورياً جديداً، يعيد توجيه المسار في اتجاه جديد، وبعد أن ينجح في ذلك يبدأ البناء التراكمي التدريجي من جديد، وهكذا يتطور عالم الأفكار وفق رؤية هيجل.
يحار البعض!! هل يسلك سبيل التغيير الجذري أم التدريجي؟! وتعتمد إجابة هذا السؤال بالأساس على المسار الذي يسير فيه السائل، هل هو في شارع “الصبر” أم “الصقر”؟! فنوعية الأفكار المطروحة هي الحاكمة، فإن كانت قادرة على اختراق الواقع فليكن، لتُبذل الجهود في تعزيز هذه الأفكار ودعمها، باعتبار أن المجتمع وضع أقدامه بالفعل في شارع “الصقر”، وهو يمر بمرحلة البناء التدريجي، وإن كانت الأفكار تقود إلى اتجاه معاكس، ومنحرفة عن مسار بلوغ أهدافها متجهة بالمجتمع نحو المقبرة؛ فلتبدأ الثورة التصحيحية للمسار من شارع “الصبر”، بالانتقال الجريء إلى الشارع الجديد.
فالفرق بين أطروحتي الثورة والتغيير التدريجي أن الأولى تناقش صحة المسار من أساسه، بينما الثانية تعتقد بصحته مع اعتماد التدرج كاستراتيجية لتطويره. الأولى تقول إن تغيير المسار لابد منه، والثانية ترى أن المسار صحيح لكنه يتطلب صبراً وتدرجاً وتراكماً في الفعل.
فاسأل نفسك أولاً.. هل أنت على مسار صحيح؟؟ لأن كل خطوة تخطوها في شارع “الصبر” تبعدك عن المكان، فالخطان المتوازيان لا يلتقيان أبداً، هذا يقود إلى المقابر، وذاك يقود إلى المطعم، فلا بأس إذن من إعادة تعريف الصبر، وذلك بالصبر على تبعات الانحراف الحاد عن المسار القديم برؤية قوية كعين الصقر.
وبعد أن تضع أقدامك على الطريق الصحيح، ابدأ الخطوات التدريجية التراكمية التي ترى أنها تقربك من هدفك، فإن اكتشفت زيف الطريق، فلا تتردد في أن تفعل مثلما فعلتُ!!
فقد اكتشفتُ أنني سمعتُ كلمة “الصقر” بالخطأ أيضاً، وكان عليّ أن أتجه إلى شارع “الصدر”، ولم تعد للخطوات التدريجية المتأنية أية قيمة طالما أني أسير في مسار خطأ، فانحرفت ثانية في مسار ثوري “بصبر جميل”، و”رؤية صقر حادة”، و”سعة صدر” تقبل تغيير المسار بثورة ثالثة إن لزم الأمر.
يمكن القول إذن أن التغيير الثوري يضع أقدامنا بجرأة على المسار الجديد، والتغيير التدريجي التراكمي هو وقع أقدامنا متجهة للأمام على ذلك المسار.
وائل عادل
14/6/2008