الخميس, 22 يناير 2015
زلزال العقول

خربش الواقع

قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 22 يناير 2015

بين التنظير والتنفيذ

فتحت علبة الجبن… فإذا بي أجد بطاقة ممدة فوق قطع الجبن مكتوب عليها “خربش هنا… إذا ظهر لك رقم 10 فقد ربحت دراجة“، أخذت قطعة نقود معدنية… وبدأتُ الخربشة. وانتقلتُ إلى عالم الخربشات.

ففي عالم الخربشات رأيت الرسام لا يرسم، ولكنه يخربش اللوحة حتى يتكشف الرسم من وراء لثام، فهو قد يرسم في مخيلته لوحة ما، لكنه ما إن يمسك فرشاته ويخربش على لوحته؛ حتى يجد اللوحة تمنحه أفكاراً جديدة، فيرسم أجمل مما تخيل، وإن غَيَّر خامة اللوحة أو مكان الرسم سنجد أن المكان يلقنه صورة أخرى ليرسمها، إنه لا يرسم.. فقط يخربش لتتكشف الصورة المخبأة خلف اللوحة، كالنحات الذي يخربش الحجارة لا ليصنع التمثال؛ بل ليستخرج التمثال المختبئ داخل الحجر.[1]

ولقانون نيوتن الثالث أيضاً قول، فلكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، فعندما يمنح الرسام لوحته أول خط من فرشاته، فإنها ترد عليه بخط مماثل تقذفه في ذهنه ليرسمه، إنها تساعده ولا تنتظر أن ينهي اللوحة من وحي خياله المحض، فهي لن تتركه يفعل بها ما يشاء، بل هناك حوار مستمر يدور بين الرسام واللوحة البيضاء، ثم يتطور الحوار كلما أضاف خطاً إلى اللوحة. فإذا رسم شجرة دار حوار بينه وبين اللوحة البيضاء والشجرة، وإذا أضاف إلى الرسم بحراً، دار الحوار بينه وبين ما تبقى من اللوحة البيضاء والشجرة والبحر، فكل هؤلاء يتضافرون ليلهمونه. ألست ترى الرسام ينظر بين الحين والآخر إلى ما رسم كلما أنهى جزءاً من لوحته؟! رافضاً أن يعمل كآلة نسخ تنقل الصورة حرفياً من العقل إلى اللوحة؟! نعم… إنه يتطلع إلى توجيهات اللوحة له!! تماماً مثلما يفعل الروائي الذي تأتيه الفكرة، فيمسك الأوراق ويخربشها، ليتجلى له النص العبقري المخبأ في الأوراق.

إن التفكير المجرد وحده لا يغير الواقع، ولا يعطيك حكماً صحيحاً عليه، فالتفكير الأولي يلهمك مساراً مبدئياً تسير فيه، لكنك قد تطوره أو تغيره، لأن الواقع سيتكشف لك، بالضبط كما يحدث مع الروائي والرسام، يكفيك أن تُكَوِّن في عقلك صورة واضحة بدرجة مقبولة عما تعتزم فعله، لكن لا تتصور أن عقلك وحده هو الذي سيمنحك الصورة الصحيحة، فالاقتحام الحذِر للواقع مطلوب، وللواقع قول يُعتد به، لذلك يجب أن تخربشه لتختبر تصوراتك، فالتجربة ستمنحك الجزء الآخر غير المكتمل من الصورة. وكل خطوة تنفيذية ستقوم بها في الواقع؛ حتماً سيتفاعل بعدها معك ويرد عليك، فقط أَنْصِتْ إلى الواقع حين يتحاور معك!!

فالواقع الذي نشكو منه ليس أبكماً، إنه واقع بليغ فصيح مشبع بالحلول المخبأة داخله، ويحتاج استنطاقه إلى خربشة مثل التي تقوم بها على كارت المسابقات في علبة الجبن. ويبقى السؤال… أين أخربش تحديداً؟؟ أين سأجد مكان الخربشة في هذا الواقع المتلاطم؟؟!!

إن التصور العقلي الأولي يعينك على تحديد مكان الخربشة المتوقع، لكنه ليس بالضرورة صحيحاً، وسيظل التحدي في اكتشاف المكان الصحيح الذي تخربش فيه الواقع، مما يجعل اللعبة أكثر إثارة، لأنك ستخربش على الأفراد المارين، فربما كان أحد المسئولين يملك الحل، كما ستخربش على المؤسسات القائمة، لعل مع إحداها مفتاح الخلاص، أو ستخربش في مناطق الفراغ التي لم يسلكها أحد، لعلك تكتشف بوابة المستقبل.

ولا تظن أنك وحدك الذي تخربش، ولكن اختلس النظرات إلى من حولك لتستفيد من تجاربهم، فهناك داخل علبة الجبن من يخربش بحماس بالغ، وربما أوشك أن يفوز بالدراجة. ولا بأس من أن تضم جهدك إلى جهده، وقد تكتشف أنه سقط في علبة الجبن الخطأ، فلتتوقف فوراً عن الخربشة، وأسرع بالهروب متسلقاً الجدار الكرتوني للعلبة قبل أن يُغلق سقفها عليك.

ومن المهم أن تحسن اختيار أداة الخربشة، فالنقود المعدنية أفضل من سكين حاد قد يكشط الصورة بأكملها، فلا تطعن الواقع بسكين، لأنك في أمس الحاجة إلى حواره معك، فلو كشطت بطاقة المسابقة بقسوة وتلاشت الصورة، حينها تكون قد قطعت لسان الواقع قبل أن يعلن النتيجة، ولن تدري هل عليك أن تعيد المحاولة أم أنك ربحت؟! وإن كنت بالفعل ربحت فمن ذا الذي يصدقك؟؟!! لقد دمرت جائزتك قبل أن تستلمها!!

وكن مستعداً لدفع تكلفة أية خربشة حمقاء، كأن تمسك بمسئول غير مسئول لتخربشه، آملاً أن تجد على كفه صورة الدراجة التي ستقلك إلى المستقبل، ولا يخدعنك استسلامه لك وأنت تخربش كفه، فقد تتكشف لك الصورة شيئاً فشيئاً، فيبسم ثغرك، فها هي الألوان تتضح، وها هو الوشم يظهر، مبروك لقد ربحت بعد عناء.. نعم لقد ربحت… لكنها ليست صورة الدراجة… إنها عصا الشرطي!

وباعتناق مذهب الخربشة تتسارع وتيرة الخربشات في المجتمعات، ويهب الناس أفواجاً ليخربشوا في كل مكان بحثاً عن الدراجة، على الجدران، في الشوارع، في الماء، في الهواء، حتى إنك لا تكاد تنظر إلى ثقب في الأرض أو ثغرة في السماء؛ إلا وتجد خربشة.

لكن المحير أنه لا تبدو في الأفق أية دراجة، حينها سيدب اليأس في النفوس، إلا أنك دائماً المنتبه المتفائل، فأمسك القطعة المعدنية، وخربش على جبينك، وانظر في المرآة لترى الدراجة مستقرة على جبهتك، لتخبرك أن الحل في عقلك… أن يعيد بناء التصور النظري من جديد. ثم يقتحم الواقع ليخربشه ثانية ليعثر على الحل.

وائل عادل

5/6/2008

———————————————————————

[1] فكرة اختباء التمثال داخل الحجر مقتبسة من كتاب “في صالون العقاد كانت لنا أيام” للكاتب أنيس منصور.


اترك تعليقك




جميع الحقوق محفوظة لـ أكاديمية التغيير Academy Of Change | تصميم وتطوير: سوا فور، المؤسسة الرائدة في تطوير تطبيقات الويب.