قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 22 يناير 2015
فلتنتزع طمأنينة المجتمع
انطلقت الفتاة فجأة ودفعتْ اللص. فالتفت إليها مغضباً.. هرول وراءها ثم أمسك بها وأوجعها ضرباً.. أخرج شفرة حادة شق بها وجهها الناعم لتكون عبرة لمن تُسَوِّل له نفسه فعلاً مشابهاً، هوتْ الفتاة على الأرض بعد أن صرختْ صرخة مدوية.
التف الناس حولها – بعد أن هرب اللص. حملوها ليذهبوا بها إلى مشفى قريب لتضميد جراحها، وما دروا أنهم يزيدون من طعناتهم لها بتلك العبارات التي تفوهت بها ألسنتهم، “لماذا تفعلين في نفسك كل ذلك؟”، “هذا مجرم لا قِبَل لك به… لم تضيعين مستقبلك؟!”، لم يكونوا أقل إجراماً من ذلك اللص، ولم تكن شفراتهم أقل حدة؛ بل كانت أكثر فتكاً، فقد رشقوها في قلب الفتاة، ليميتوا فيها الضمير.
كان زميلي أحد هؤلاء الخطباء المفوهين الذين أثخنوها بمزيد من الجراح، سألته أن يتمهل ويتوب عن جريمته. لكنني اكتشفت أن هذه الخطب العصماء كانت ضرورية بالنسبة لهم، فقد كان كل فرد يخاطب نفسه ليبرر لها قعودها بصوت مسموع.
لقد زعزعت هذه الفتاة طمأنينة الضمير لدى الجموع الواقفة، فحتى ذلك الذي ينعتها بالتهور خالفت قسمات وجهه ثرثرة شفتيه، لم يكن مشفقاً عليها بقدر ما كان يشعر بتأنيب الضمير، كونه لم يحرك ساكناً. حقاً فلتحيا الذبابة!!
استمر زميلي في محاولة تهدئة ضميره بعبارات يسمعني إياها، فأخذ يتحدث عن فشل الفتاة في تحقيق أي هدف، فهي لم تمسك باللص، وخسرت جمالها. فما جدوى ماقامت به؟!
قلت له: صحيح، لقد أخطأت الفتاة، كان عليها قبل أن تتخذ ذلك القرار الفوري أن تقضي أياماً في تفكر عميق، ثم تأتي ومعها الحبال الغلاظ التي ستقيد بها اللص، ومن المهم أيضاً أن تأتي بمقاعد مريحة ليجلس عليها أمثالك من المشاهدين حتى لا تتعبهم أقدامهم ويستمتعوا بالمشاهدة. أما المشروبات الغازية والتسالي فليأت بها كل متفرج على حدة. وفي النهاية … تحيا الذبابة!!
إذا نجحت الفتاة في استرداد ما سرقه اللص سيعتبرها المجتمع بطلة عظيمة، وسيحتفي بها سعيداً كأنه هو صاحب الإنجاز، ثم يعود يمارس حياته بشكل طبيعي دون أن يشعر بالأرق كونه لم يفعل شيئاً، لقد تحول إلى لص كبير يسرق الإنجازات، ويحتال لينال راحة البال. أما إن أخفقت الفتاة في مهمتها – التي كان يفترض أن تقوم بها الجموع؛ سينتاب الجمهور ألم نفسي كلما تذكر المشهد. أي إن العقوبة المباشرة التي وجهها اللص للفتاة هي سبب تكدير صفو ضمائرنا، فلولا الصرخة، والوجه الدامي، لما حُفر المشهد في ذاكرتنا. ولما شعرنا بأنه كان يفترض علينا أن نفعل شيئاً..
بدأتُ أشعر أن الفتاة كانت مدركة أنها لن تنال من اللص، لكنها ستنال منا، لم تكن تقاوم اللص، بل كانت تقاوم صمتنا، لم تكن تطارد اللص، بل كانت تطارد ضمائرنا التي اختبأت داخل أحشائنا هاربة من أداء دورها. وربما كان ذلك هو هدفها.
إنني على يقين أن الفتاة أقضت مضاجع ضمائر الجموع الواقفة، وأنهم قبل أن يضعوا رءوسهم على وسائدهم ليلاً سيزورهم المشهد بتفاصيله من جديد، وستصبح تلك الفتاة قصة وأسطورة تغشى مجالس من رأوا الحادثة. أسطورة الذبابة!!
خفتت حدتي تجاه صاحبي، فالناس – وأنا واحد منهم –كنا نفتقد الأدوات الفعالة للمقاومة، فأنى لشخص مثلي أن يواجه لصاً مسلحاً. إنني حتى لا أعرف كيف أنتزع سكينه من يده بحيث لا يؤذي أحداً.
أدركت أن الرغبة في مواجهة الظلم لم تكن تنقصنا، ولكنها القدرة على تحقيق هذه الرغبة. فاللص زود رغبته في السرقة بسلاح يحسنه، أما نحن فرغباتنا كانت مجردة من كل سلاح. ولم يكن سلاح الفتاة سوى القوة النفسية الهائلة، وهي وحدها لا تكفي لوأد الظلم، لكنها كفيلة بإثبات آدميتنا.
إننا عندما نقاوم الظلم كأفراد فإننا نستعيد آدميتنا، كَخَلْق مُكَرَّم يأبى الظلم. ولا تسعى مقاومة الظلم إلى التخلص من المستبدين فحسب؛ بل تسعى أيضاً إلى إيقاظ الضمائر، إلى انتزاع الطمأنينة الاجتماعية الزائفة، وتفتيت وهم الشعور بالرضا، وصفع مبررات الرضوخ للواقع داخل كل فرد. أي أن مقاومة الظلم في النهاية تكدر صفو المجتمع إن أراد أن يغض الطرف عن الظلم، متخلياً عن أحلامه ومتجاهلاً واجباته. فأكرِم بالذبابة!!
إن المقاومة سلوك، نابع من بشريتك كإنسان، فهو واجب فردي به تكتمل إنساناً، سواء عاونك الناس أم خذلوك، فإن عاونوك فربما تقهر الظلم، وإن خذلوك فحسبك أنك قاومت الظلم الأكبر… ظلم الجموع الصامتة.
وعليك أن تبدع في إيجاد الوسائل التي تؤرق بها بال كل مستكين مسترخ. فإن رأيت ظلماً في أي مكان فقاومه ولو كنت وحدك، في بيتك، في عملك، في مدينتك، في بلدك، في العالم. ولا تفكر دائماً بمنطق هل سيزول الظلم؟ لأنك إن لم تستطع وحدك إزالة الظلم فإن واجبك يتحول إلى مقاومة ظلم أولئك الصامتين الذين كان عليهم أن يشاركوك المعركة. فلا بأس أن تغير اتجاه المعركة لتعلن خوض معركة زلزلة الضمائر، حين تقتحم أمام الملأ وحدك بصدرك العاري وقبضتك المشدودة. حينها ستتحول إلى عملاق، يشعر من حوله أنهم أقزام. فيا لها من ذبابة!!
وكلما اكتشفتَ وسيلة أقرب للنجاح في مقاومة الظلم، كلما أثر ذلك بإيجابية على الجموع من حولك لتؤمن بإمكانية الفعل. إنك حينها تزود رغبتهم بالقدرة، وتذكر أن رسالتك الرئيسة هي أن تثبت لنفسك أولاً أنك إنسان سوي، ثم تقض مضاجع الضمائر النائمة، ولتتفنن في ذلك كيفما استطعت، فأنت حتماً المنتصر. ألست أقوى من الذبابة؟!
اتجهت مع زميلي إلى أقرب مطعم.. حضر الطعام الشهي، إلا أن زميلي قضى معظم وقته في محاولة طرد تلك الذبابة المزعجة، وإقناعها أن أنفه ليس المهبط الخاص بها، أخذ يصرفها عن طعامه دون جدوى.. تململ وأبدى نفوره، فقد قطعت عليه لذة الطعام، أخبرْتُه أنها تكمل تلقينه درس الفتاة لتقض مضجعه، وإن كان قد تمكن من الهروب بضميره أمام سلوك الفتاة؛ فلن يتمكن من الإفلات من تلك الذبابة، قلت له: إننا في حاجة إلى آلاف الذباب الذي يغشى طنينه كل مكان، وكيف لا وقد كان سقراط يرى أثينا كحصان كسول، ويعتبر نفسه الذبابة التي تحاول إيقاظها وإبقاءها حية!![1]
وائل عادل
12/5/2008
———————————————————————–
[1] لا يتعارض هذا المعنى مع التخطيط والعمل المدروس للانتصار المباشر على الظلم، لكنه يتناول فقط درجة من درجات المقاومة التي يصبح ما دونها أقرب للاستسلام. فقد لا يتمكن المقاوم أحياناً إلا من اللجوء إلى هذه الدرجة من الفعل (استراتيجية الذبابة) الذي يهدف إلى خلق حوار داخل كل نفس صامتة وهي تشاهد الظلم. وربما يكون هذا المستوى في حد ذاته هدفاً لبعض مقاومي الظلم، الذين يضعون نصب أعينهم تعليم المجتمع مقاومة الظلم الآني بما هو متاح.