قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 22 يناير 2015
احذر الأخطاء القاتلة
كان يلبس أفخر الثياب.. “بذلة” في غاية الأناقة، وحذاء براقاً، وربطة عنق منسجمة مع ألوان ثيابه… أما عطره فكان جذاباً بحق… لكنه لم يجذبني مثلما جذب انتباهي عيب باد في مقدمة بنطاله.. همست في أذنه: “السوسته” مفتوحة..
تغير لون الرجل.. شكرني معيراً إياي ابتسامة قصيرة سقطت أرضاً قبل أن تصلني.. بدأ يتلفت يميناً وشمالاً… ترى هل رآني أحد غيره؟؟!!… هذا هو السؤال الذي كان يُزعجه.
بدأ يرفع “السوسته” وقد أقنع نفسه أن أحداً من المتسوقين في المحل لم يلحظ الأمر، وها هو الارتياح يعيد تلوين وجهه باحثاً عن لون جلده الطبيعي، إلى أن تجمد فجأة عند اللون الأحمر! لقد كُسرت “السوسته” في يده دون قصد، بعد أن كادت تغلق منفذ الإزعاج لديه، تداعى العرق على وجهه، أمسك “السوسته” المكسورة وهو ينظر إليها في ذهول، فهو لا يصدق ما حدث… بدأ يتلفت حوله، يا لها من لحظات عصيبة!! فمنزله يقابل المحل، لكنه يشعر أنه يبعد مسافات طويلة، قرر أن يبدأ رحلة الهروب من أعين الناس إلى البيت، أيقظ إحدى المجلات النائمة على الرفوف منتزعاً إياها، وأمسكها بيديه ليغطي موضع “السوسته”، حتى لا يحملق فيه شخص فضولي.
كم أزعج هذا العطل الفني في “السوستة” صاحبنا الأنيق، لقد جعله يغير مسار رحلته ليطير إلى البيت، لأنه يدرك أننا نضطر أحياناً إلى ترك كل الإيجابيات والنظر فقط إلى السلبيات، حتى وإن قل عددها الكمي، لأن التأثير النوعي أشد وأبقى. فالحائط الأنيق إن لوَّثَته بقعة الدهان ننعته بـ”الحائط المبقع”، ولا أظن أننا نتساهل مع العامل المهمل إن قال: “انظروا إلى النصف الملآن من الكوب“، ربما صببنا هذا النصف على رأسه حينها!!
وكلما ازدادت الفخامة كلما زات حساسيتنا ووعينا بالقصور. فقد ترى متسولاً في الشارع فلا تبالي كثيراً إن كان ثوبه يتلحف بالتراب، لكنك عندما ترى شخصاً أنيقاً سيلفت انتباهك زر مفقود في قميصه، أو خيط شارد عن نسيج “بذلته”. فما بالك إن كانت “السوسته مفتوحة“؟!
حينها ستلفت الانتباه رغم أنف صاحبها، وتتلاشى صورة الأناقة رغم أنه لم يغير ثيابه، وستختفي رائحة عطره الساحر رغم أنك استنشقته منذ لحظات، لقد اختزلْت قوته في نقطة ضعفه، وأناقته في إهماله “السوسته”. وإذا استمر حاله هكذا يوماً بعد يوم فلن يصفه الناس في حديثهم بـ”الرجل الأنيق”؛ بل سيلمزونه “أبو سوسته مفتوحة“!!
وكلما ارتقت المؤسسات والمشاريع في المجتمع، وكلما تألقت وتأنقت؛ تكون في أشد الحاجة إلى التأكد من أن “السوسته” محكمة الإغلاق. مدركة أن بعض العيوب يُغتفر، وبعضها قاتل. بعضها يمر مرور الكرام، وبعضها يحملق الناس فيه.
وكلما ازدادت الأناقة في الأهداف كلما عظمت حساسية الناس تجاه القصور في بلوغها، ووعي الناس بهذه الفلسفة ضروري جداً حتى لا يُخدعوا بعطر نفاذ يطارد الهواء النقي، وربطة عنق قد تخنق أحلامهم.
والمؤسسات الواعية تدرك بدورها أن الجمهور لا يتغاضى عن كل الأخطاء بسهولة. ولا يتعامل مع الإيجابيات والسلبيات بلغة الحساب والأرقام، وبصره ليس بالضرورة موجهاً إلى ربطة العنق، بل أحياناً أسفل من ذلك بكثير. فالمجتمع الحضاري يأبى أن تسير المشاريع والأفكار في طرقاته و”السوسته مفتوحة”.
والأحزاب والحكومات التي تبذل جهوداً لجذب الجمهور، ولا تزيده تلك الجهود إلا صدوداً وسخرية؛ عليها أن تتأمل حالها قبل أن تتعجب من زهد الجماهير فيها… ربما تكون “السوسته مفتوحة”.
أما الأمم التي تكالبت عليها أمم أخرى وصارت موضع إغراء لها فعليها أن تنتبه، ولا تتصور أن الحل في عتاب الخصوم.. “السوسته مفتوحة”..
وعندما يراودك شعور أن ثمة خطأ موجود، لكنك لا تدري ما هو؛ فلا تتجاهل شعورك، وابحث عن الخطأ بكل ما أوتيت من عقل، ولا تغرنك الإيجابيات، لأنك قد تكتشف أن الثياب في غاية الروعة… لكن”السوسته مفتوحة”!!
ولن تحتاج بعد اليوم أن تتكلم كثيراً، فإذا وجدت في مديرك المتعالي عيباً قاتلاً، فليرفع كل موظف على مكتبه لافتة “السوسته مفتوحة”. وإذا قررت ترك وظيفتك في شركة كبيرة ولامك زميلك على تهورك وفقدانك المزايا؛ فحسبك أن تقول: “يا عمي .. السوسته مفتوحة”. وإذا ما يئس شعب من الأخطاء القاتلة لحكومته؛ فلترفع الحشود الملتهبة لافتات “السوسته مفتوحة”. وإذا ما ضاقت البشرية بتجار الدمار الذين يتزينون ببهرجة قشور الحضارة؛ فليهب بنو الإنسان في أرجاء الأرض هاتفين “السوسته مفتوحاااااااااااااااااة”.
إلى كل صاحب “سوسته مفتوحة”… اركض يميناً أو شمالاً.. اشغل الناس بصوتك العالي… تحدث عن رحلاتك البطولية وكفاحك من أجل شراء ملابسك الأنيقة… لكن اعلم بعد كل ذلك أن المشكلة لم تُحل.. “السوسته مفتوحة”.
قد يتشنج صاحب “السوسته المفتوحة”، صارخاً في العيون الناقدة، داعياً إياها إلى النظر بموضوعية، إلى القميص، “البذلة”، ربطة العنق، الساعة. ولكن يبدو أنه كلما ازداد حماسه في توجيه الناس إلى النظر في اتجاهات أخرى – دون أن يغلق “السوسته”؛ كلما وجدوا مبرراً لتثبيت عيونهم! متسائلين في دهشة بعد أن يَقْلِبوا رءوسهم.. من أين يفكر ذلك الرجل؟!
وائل عادل
16/3/2008