قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 22 يناير 2015
صفر القمة
نهره ضابط المرور: هذه ليست مشكلتي… السيارة عليها مخالفات بقيمة 5000 دولار.
أجابه الشاب في حيرة: لكنني اشتريتها منذ بضعة أيام، ولم أستكمل دفع أقساطها بعد، كانت سيارة جدي، ولم أرتكب بها مخالفة واحدة، ربما ارتكبَ هذه المخالفات قبل أن يموت، إنه….
قاطعه الضابط: لا شأن لي بقصتك… أمامي سيارة ارتكبت مخالفات… فمن المسئول؟؟ من أحاسب الآن؟؟ لا شأن لي بجدك الذي مات… ولن أقاضيه في قبره… أنت الآن تستقل هذه السيارة، وعليك أن تسدد قيمة المخالفات.
عاد الشاب بذاكرته إلى الوراء متذكراً جده، لم يَدْرِ هل يدعو له أم عليه، لكنه ثاب إلى رشده وعلم أنه وحده المسئول، حين رفض نصيحة عِز!!
فلكم أخبره صديقه عِز أن يبتعد عن السيارات المستعملة، فالأفضل أن يشتري سيارة جديدة “Zero”، حتى وإن كلفته مبلغاً أكبر، لأنه وحده الذي سيصنع ويدون تاريخها، ابتداء من تاريخ قطع الغيار إلى تاريخ المخالفات، إلى عدد الكيلومترات المقطوعة.
خرج الرجل من عند الضابط مستقلاً سيارته الحمراء الجديدة القديمة، فهي جديدة بالنسبة له، لكنها طاعنة في السن.. فجأة رأى شباباً يهرولون نحوه، يحملون في أيديهم هراوات، أما وجوههم فنسجت خطوط القسوة ملامحها. إذا بهم يهتفون، ها هو صاحب السيارة الحمراء رقم 1950، ها هو قاتل صديقكم!! حاول أن يقنعهم أنه لم يقتل أحداً، نعم ربما قَتَلَتْ السيارة صديقهم، لكنه لم يفعل، قد تكون السيارة اقترفت جرائم في ريعان شبابها، لكن ما ذنبه؟! أخبرهم أن عمر السيارة أكبر من عمره، ثم أقسم أنه لم يكن هو سائقها، كان من الصعب أن يقنع هراواتهم بالحقيقة، فقد وجدت جسداً طرياً تطحنه!!
يتكرر هذا المشهد في الحياة بأشكال متعددة، فأحياناً يلتحق الشباب بمؤسسات أو مشاريع قديمة، ثم يفاجأون بعد فترة أن عليهم سداد فواتير أشياء لم يفعلوها، أوتصعقهم أعداد الخصوم الذين يتربصون بهم، ليس بالضرورة بسبب طبيعة المشروع؛ بل أحياناً بسبب طبيعة ممارسات من سبقهم.
قد يظنون أن بإمكانهم إقناع خصومهم أنهم مختلفون عمن سبقهم، وأن المخالفات التاريخية ليسوا هم صُناعها، لكن ترى هل سيقنعونهم بإسقاط الفواتير السابقة؟!
ربما يتخوف البعض من البدايات الجديدة محتجاً بالمقولة السائدة “هل نبدأ من الصفر؟“.
وأقول.. لِمَ لا؟؟!! فلنبدأ من صفر الأطروحات، فأطروحات السابقين ربما كانت مناسبة لعصرهم لكنها لا تناسبنا اليوم، ولسنا في حاجة إلى أن نبدأ حياتنا بدخول معركة الاعتذار والتبرؤ من تلك الأطروحات. نعم.. قد تكون أطروحاتنا في بعض جزئياتها تطويراً لأطروحات السابقين، لكنها في النهاية تعتبر الأطروحة رقم واحد بالنسبة لنا. فلا يوجد لدينا رصيد من الأطروحات الفاشلة يحاسبنا الآخرون عليه. وهذا ما أعنيه بـ”صفر الأطروحات”.
ولنبدأ من صفر الفواتير المطلوب سدادها، فأي منطق يقول بدفع فواتير كهرباء لم نشعلها؟! ومياه لم نشربها؟! ولنبدأ من صفر العلاقات، فليس بالضرورة أن حلفاء آبائنا هم حلفاؤنا، أو خصومهم هم خصومنا، فلكل مشروع حلفاء وخصوم، ومشاريعنا سيكون لها خصوم بدورها، ولسنا في حاجة إلى أن نصنع بأيدينا تحالفاً يضم خصوم الآباء وخصومنا، فلنؤسس علاقاتنا على قواعد جديدة.
والبداية من الصفر لا تعني بالضرورة هجر كل أطروحات وعلاقات السابقين، لكنها تعني حرية الاختيار، اختيار الأفكار والحلفاء والخصوم، في ضوء فهم جديد للواقع ومتطلباته.
فالبداية من الصفر تعني البدء من الخبرة التاريخية لأطروحات وممارسات السابقين، مستفيدين من نجاحاتهم وإخفاقاتهم. إننا سنبدأ من الصفر من حيث تأسيس بنائنا من جديد، وهو بناء قد يختلف شكلاً ونوعاً عما أسسه السابقون، لكننا في نفس الوقت نبدأ من القمة التي وصلت إليها أفكار ومشاريع من سبقونا، أي أننا نبدأ من “صفر القمة“. من آخر نقطة في قمة التجربة البشرية، وأول خطوة في تحركنا نحن.
ويجب الانتباه إلا أن الاستمرار في مشروع تراكمت فواتيره وعداواته- رغم وجود فوائد له- لا يعني التغلب على خرافة “البداية من الصفر“، ففي الوقت الذي تعتب فيه على مشاريع جديدة تنطلق من الصفر؛ ستجد نفسك في مشروع ضخم أنهى رحلته وفي طريقه إلى الصفر. فكِّر ملياً.. أليس هذا المشروع الذي تخشى هجره قد بدأ أيضاً من الصفر يوماً ما، وكانت هذه الجدة هي سر حيويته وانجذاب الناس إليه؟!
إن البداية من “صفر القمة” تعني البداية بدون تاريخ مؤلم، مستحضراً في وعيك تاريخ من سبقك، دون أن يكون في ملف سيارتك مخالفات إشارات لم تكسرها، أو زيادة في سرعة لم تتجاوزها، أو مداعبة أحد المشاة لتطرحه قتيلاً بمقدمة سيارة لم تركبها، فلستَ مضطراً لتحمل تبعات ممارسات غيرك، لأنك ستخلق علاقاتك الجديدة مع العالم المحيط بك، وستكون مسئولاً فقط عن طريقة قيادتك، عن فكرك وطرحك وممارستك.
والبداية من “صفر القمة” تعني تسطير تجربة جديدة قد تزيد درجة قوة المجتمع، وتسجيل قصة نجاح تضاف إلى ذاكرته التاريخية، ومحاولة أخرى لاكتشاف أداة جديدة لتطويره. فالمجتمع في ظل أدواته السائدة معروف مصيره، فماذا لو أضيفت له تلك الأداة الجديدة التي ربما ترتقي به؟!
أحياناً يكون البدء من القديم ممكناً، لكن عندما يصيب العطل محرك السيارة إضافة إلى تحمل فواتير المخالفات والأقساط الباهظة؛ حينها تصبح السيارة الجديدة “Zero” أكثر فاعلية.
إن المجتمعات الحية تحسن توليد المشاريع، وتحتفي بكل مولود جديد يبدأ حبوه من الصفر، مقدمة له خبرتها في المشي والعدو بصدر رحب، فخورة بهذه الوفرة في رصيد تجاربها. فالمجتمع يدرك مدى استفادته من الجهد الذي يبذله أصحاب المشاريع الجديدة، الذين يكتشفون الطرق الجديدة، التي لا يلبث كل المجتمع أن يستعملها. ثم يُشَيِّد النابهون من بعدهم مسارات أخرى جديدة يهدونها للمجتمع، معلنين أن مشاريعهم ليست إلا أدوات خادمة له.
وهناك مجتمعات ابتليت بأناس يتحدون مستقبلهم، يجيدون عرقلة أنفسهم بنصب الفخاخ للمشاريع المجاورة، فهم أشبه بأولاد يلعبون الكرة في الشارع، فإذا ما أوشك الهدف أن يصيب مرماهم ركلوا الأحجار التي تحدد المرمى، وإذا سمعوا عن ولادة مشروع جديد دارت أعينهم من الخوف، ثم وجهوا نداءاتهم إلى أتباعهم في كل مكان… “عرقِلووه“!!
وائل عادل
12/3/2008