قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 21 يناير 2015
من يفهم لغة الحياة يستمتع بها ويؤثر فيها
استنفرت زملائي لنبدأ حملة تطهير المكتب من الأوراق القديمة، تَسلَّم كل واحد منا أحد الأدراج ليعيد ترتيبه.. أخذوا يُقَلبون في الأوراق.. رمى أحدهم ملفاً به بعض أوراقي بلا مبالاة.. أثار الملف انتباه زميل آخر، وانجذب إليه حتى كدنا نعجز عن إخراج وجهه من داخل الملف!!
وأظن أن سر تباين تعامل الزميلين مع الملف أن الأول رأى في أوراقه خمسة خطوط متوازية، بينما رأها الثاني سلماً، ورأى الأول مجموعة من النقاط السوداء – بعضها له ذيل، بينما قرأها الثاني حروف لغة تنبض بالمشاعر المتدفقة، واعتبرها الأول أوراقاً ليس لها مأوى سوى سلة المهملات، واحتضنها الثاني كثروة من إهداء “بتهوفن”.
كثيراً ما نواجه في حياتنا رموزاً نتوهم أننا ندرك دلالاتها وعمق ما تحمله من معان، فالطفل الصغير يرى “النوتة” الموسيقية خمسة خطوط تزينها أشكال سوداء، أما الأكبر سناً فيخبرك أنها “نوتة” موسيقية يحار عاجزاً عن فك شفراتها، بينما يتمكن العازف من سماع اللحن بمجرد قراءة “النوتة”، وقبل أن تتكلم به أية آلة موسيقية، فاللحن يتجلى له من أول نظرة، لا ليسمعه؛ بل ليراه!!
ترى هل في حياتنا أوراق أخرى – سوى “النوتة”- لا ندرك ما فيها إلا باعتباره خطوطاً؟؟!! هل في الأحداث التي تمر علينا يومياً ما ننظر إليه كنقط سوداء – ربما افتقدنا ذيلها – فلا نعيرها اهتماماً؟؟!! وهل ما نعتبره غير ذي معنى هو حقاً كذلك؟؟!! فعدم فهمنا للنوتة الموسيقية لا يعني أنها خاوية من المعاني.
كم من ثقوب – أشبه بتلك النقاط- نمر عليها يومياً دون أن نلقي لها بالاً، لكننا نكتشف إن أمعنا النظر أن هذه الثقوب الضيقة بوابات لعوالم واسعة جداً، فعندما تشير إلى ثقب في الحائط فأنت تشير إلى عالم بأسره، إلى عالم النمل!! فإذا تحولت إلى عقلة إصبع، ثم أجريت عملية جراحية لتصبح في حجم ثقب الإبرة، ودخلت من بوابة النمل الكبيرة؛ ستكتشف أن النمل بدوره لديه ثقوب على جدران مملكته، فإن اقتربت من أحد الثقوب ستبصر عالماً جديداً، وهكذا..
وهذه العوالم المتشعبة ليست في العالم المادي المشاهد فحسب؛ بل توجد في حياتنا الاجتماعية والسياسية عوالم تتشعب منها عوالم، فعندما ينظر لك أحدهم بضيق، فاقرأ “نوتة” وجهه بدقة، هل هو فعلاً يعنيك أنت؟ وهل أصابه الضيق عندما رآك أم إنه كان متبرماً من قبل أن يراك؟! وهل أنت السبب المباشر؟ كل هذه ثقوب تقودك إلى عوالم جديدة، مما يجعل إطلاق الأحكام على ما نراه ليس يسيراً، فلربما اقتربت من عدو لك، لتكتشف أنه ليس بقعة سوداء اعتَدَتْ على الخمسة خطوط وشوهَتْ الصفحة، فأحياناً تنشأ العداوة نتيجة جهلنا بخصومنا، لا معرفتنا بهم!!
إن هذا يدفعنا دائماً إلى طرح الأسئلة على ما نراه، فربما نرى القشرة وتعمى عيوننا عن رؤية الجوهر، وكلما اقتربنا مما نراه وازددنا عمقاً في طرح الأسئلة عليه؛ كلما اخترقنا جدار القشرة لنكتشف عوالم جديدة، وهذا يجعلنا نعيش حياتنا كمكتشفين، مما يزيد من متعة الحياة، ويتجدد لنا يومياً إبهارها.
فلكي نستمتع بالحياة يجب أن نفهم لغتها، ولكي نتمكن من التأثير فيها فعلينا أن نتقن طرح الأسئلة عليها، ولكي نتجنب أعاصيرها يجب أن نسمع أصواتها قبل أن نراها، فلحن الأعاصير مدون على “النوتة” التي لم نُعِر لها بالاً، وسرعان ما تقع في يد عازف محترف متعصب حقود، ويل للعالَم منه إن داعب أوتار آلاته. حينها سيكون السؤال.. هل فاجأتنا الأعاصير حقاً؟! أم أننا لم نحسن قراءة “النوتة”؟؟!!
خرجنا إلى الشرفة لنستريح قليلاً من عناء ترتيب المكتب، فإذا بنقطة جديدة تطالعنا، وثقب آخر يرتل علينا نفس الفكرة مؤكداً إياها، فالبعض يعتبره كشافاً للنور في الصحاري، والبعض الآخر يزجه دون إذن في قصيدة حب، لكن هناك آخرين ينظرون إليه باعتباره العالم الجديد، فالقمر إحدى المستعمرات التي يتصارع عليها من يحسنون قراءة “نوتة” السماء. وفي الوقت الذي نرفع رقابنا لأعلى كي نراه؛ سنجد آخرين يعزفون على أوتار السماء بقوة، تتدلى أرجلهم على حافة القمر المستديرة، ويحنون رؤسهم كي يرونا!!
وائل عادل
22/2/2008