الأربعاء, 21 يناير 2015
زلزال العقول

العيب في الشوربة

قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 21 يناير 2015

أدوات تبحث عن عقول

يا له من مذاق ساحر وملمس دافيء!!. ففي ذلك الجو البارد تكون “الشوربة” خير حليف لي للتغلب على قسوة الشتاء، فبمجرد رفع كفي فوقها يداعبني بخارها الدافيء، وكلما اقْتَرَبَت من فمي مستقرة في ملعقتي؛ كلما أصاب وجهي لفحها.. أوشكت أن أفرغ منها، وأوشك أن يُتلف أعصابي.

فعلى الطاولة المجاورة يجلس طفل صغير مع أمه، يبذل قصارى جهده في تناول “الشوربة” دون جدوى، فهو يمسك الملعقة “بالمقلوب”، بطريقة أضحكت قطرات “الشوربة” الساخنة، وكيف لا وهو يغمس ظهرها المحدب في الإناء محاولاً اصطياد القطرات دون جدوى، وكم وبخته أمه كي يستخدم تجويف الملعقة في تناول “الشوربة”؛ لكنه عجز عن فعل ذلك.

بدأ ينفخ في الشوربة لعلها تلين وتسلم الانقياد له، ثم يغمس الملعقة المقلوبة بنفس الطريقة دون جدوى، أخذ يدير الإناء لعله يغرس صنارته في منطقة تستجيب له، رفع الإناء ونظر إلى قعره لعل شيئاً ما يحول بينه وبين بغيته.

تساءلت!! ما الذي يجعله يصر على تلك الطريقة العدمية في تناول الشوربة، لم لا يمسك الملعقة مثلنا، لم لا يستطيع فعل ذلك رغم تنبيهات أمه؟؟!! لم يجعل الملعقة أرجوحة للقطرات تصعد فوقها ثم تتزلج عليها؟؟! أهو غير مقتنع بما تقوله أمه أم أنه يعاندها؟؟!! أم يعبر عن عجزه عن فعل ما اقتنع به؟؟!!

لا… لا يبدو معانداً؛ فهو يجهد نفسه، وها هو يضجر من هذا الطعام. إذن ما الذي يدور في عقله الآن؟؟!! هل يلعن هذا الطعام الزئبقي؟؟! ترى لو طلبت أمه له طبقاً من الأرز هل يتغير الوضع؟؟!! هل يرى المشكلة في الملعقة أم في الطعام أم في الطاولة أم في أمه؟!!

يبدو لي أننا يمكن أن نستخدم الملعقة كوسيلة تتزلج عليها قطرات “الشوربة” فرحة ضاحكة، أو نستخدم نفس الأداة بفاعلية، حين نديرها بزاوية 180 درجة لتغرف ملايين القطرات.

تساءلت في نفسي: إن جربت وسيلة وفشلت.. هل العيب في الوسيلة؟ لذا يجب تغييرها، أم أنني أمسك بالوسيلة الصحيحة مسكة خاطئة؟ وعندما لا يحالفني الحظ في استعمال “الملعقة” فهذا لا يعني بالضرورة إغلاق مصانع “الملاعق”، بل ربما يعني فتح أقفال العقول.

كذلك راعني ما رأيت من فعل القطرات، فأدواتنا إن لم نحسن استخدامها بجهلنا؛ سيستخدمها خصومنا الأكثر علماً بالأداة، والأكثر جاهزية لاستخدامها، وها هي القطرات تعلن افتتاح ملاهي الملاعق، وتتداعى إليها آلاف القطرات متزلجة على ظهور الملاعق المحدبة.

قد يهتف الطفل في أمه -بعد أن تصب على أذنه تلك الخطبة الساخنة المملة التي جالت بخاطري: “هذه أداتي، وأنا الذي أمسك بها… العيب في “الشوربة””.

ربما لم يدرك أن استخدام الأداة يختلف عن الإمساك بها، فليس كل ممسك بأداة مستخدم لها، فهو يمسك الأداة، لكن القطرات هي التي تستخدمها كمدينة ملاهي. ترى هل يمكن حقاً أن يصبح المالك الممسك بالأداة أجيراً لدى مستخدم آخر؟؟!! هل يُعقل أن تكون مواهبنا وقدراتنا لا يستخدمها سوى خصومنا؟؟!!

بدأت الأم تمسك بيد الطفل وهو يمسك بالملعقة لتعلمه كيفية استخدامها، فغطست الملعقة في الشوربة، ثم خرجت عائدة بغنيمة كبيرة، فرحت للطفل، آن له أن يستمتع بالشوربة، ثم ما لبثت قسمات وجهي الفَرِح أن تبدلت ألماً، ها هي الأم تترك يد ابنها، وكلما ارتفعت الملعقة إلى أعلى كلما وجف قلبي كمشاهد ينتظر قفزة لاعب “السيرك”، وكلما دنت الملعقة من فم الطفل، كلما أصبحت اللعبة أكثر إثارة، فها هي القطرات تقفز من الملعقة ممارسة رياضة الغطس في الإناء في لعبة أكثر جرأة من الأولى، فالأيادي المرتعشة لا تحقق مرادها، حتى وإن أمسكت أدواتها بطريقة سليمة. لقد كانت يد الطفل ترتعش كلما اقتربت الملعقة من فيه خشية ألا يفلح في الاحتفاظ بالشوربة، بينما كانت الشوربة تتهادى مع الاهتزازات المرتعشة، فرحة بدنو لحظة القفز، حيث ترتفع هامات قطرات “الشوربة” في الإناء عالياً، منتظرة قفزة الأبطال من الملعقة، مصفقة لهم فور ملامستهم سطح “الشوربة”.

تابعت موقف الطفل… فبعد أن فكر وقدر ونفد صبره، قرر تغيير الوسيلة برمتها، لقد بحث فوق الطاولة يميناً ويساراً، ثم انفرجت أساريره، بعد أن توصل إلى الطريقة العبقرية في تناول الشوربة الشهية، توقعت أن يتجاهل الملعقة، وكنت سأغفر له ذلك، فليس لفنون “الإيتيكيت” مكان في هذا المأزق، والتنقل بين الوسائل مطلوب لتحقيق الأهداف، فليمسك بالإناء ليرتشف منه مباشرة دون وسيط، لكنه لم يفعل، لقد نحى الملعقة جانباً بعد أن جربها واقتنع بعقمها، مشمراً عن ساعديه، وممسكاً ب “الشوكة” كخيار استراتيجي.

وائل عادل

24/12/2007 


اترك تعليقك




جميع الحقوق محفوظة لـ أكاديمية التغيير Academy Of Change | تصميم وتطوير: سوا فور، المؤسسة الرائدة في تطوير تطبيقات الويب.