قسم: ثورة الأفكار
أضيف بتاريخ: 21 يناير 2015
ي سياق الدعوة الناشئة والمطالبة بتكثيف الدراسات المتعلقة بثورة العقول تثار ابتداءاً مجموعة من التساؤلات من قبيل: ما هي ثورة العقول تحديداً؟ وما هي مراحل هذه الثورة؟ وما هي ملامحها؟ ومن أين تستمد هذه الثورة قوتها؟ ما هي احتياجاتها؟ وما هي مواصفات العقل الثائر؟ وما هي الحدود الفاصلة بين ثورة العقول وثورة الواقع أو ما هي خطوط التماس بينهما؟ وهل لابد أن تؤدي ثورة العقول إلى ثورة الواقع؟ وكيف يمكن التصدي لها ومقاومتها؟ وغيرها من التساؤلات التي تحتاج إلى إجابات.
ونظراً لأن هذه التساؤلات تحتاج إلى إسهاب وتوضيح وتدليل – ربما لا يتسع له المجال هنا – فسيجيب هذا المقال في عجالة على السؤالين الأوليين على أمل أن تتبعه مقالات أخرى تنير الطريق أمام ثوار العقول. ما هي ثورة العقول؟ ثورة العقول هي تلك التحولات الجذرية والسريعة التي تعتري أفكار مجتمع أو مجموعة أو فرد ما، والتي يصاحبها إجراءات عنيفة بدرجة ما. ويُقصَد بالتحولات الجذرية في هذا السياق تلك التحولات التي تعيد تعريف الممكن والمستحيل، الصواب والخطأ، المعرفة وعدم المعرفة، والتي تعيد تعريف الذات والآخرين والعلاقة بينهما. متطلبات ثورة العقول وتشمل هذه التحولات الجذرية أربع عمليات: • المعارضة • الإلغاء • التنظيم • الخلق فثورة العقول هي معارضة للأطر القديمة المقيدة للعقل ومن ثم لأشكال الفعل، ثم هي إلغاء لها، ثم إنها إعادة تنظيم للعقل بشكل جديد خارج الأطر القديمة، ثم هي خلق للأفكار والأطر الجديدة. وتتسم هذه التحولات بالسرعة في التشكل والتأثير، إذ تتجاوز الإطار الزمني الطبيعي لتطور الأفكار، فهي تأتي كأفكار صادمة ومفاجئة، فعلى سبيل المثال جاءت الأفكار الإسلامية والماركسية والعقد الاجتماعي صادمة ومفاجئة وغير متوقعة، ولا يعني هذا أن تلك الأفكار جاءت من فراغ؛ بل لقد كان لها شواهد فكرية تاريخية، فالفكرة الإسلامية جاءت متممة للرسالات السابقة، والماركسية جاءت على خلفية فلسفة ألمانية واقتصاد سياسي إنجليزي، أما فكرة العقد الاجتماعي فقد كان أول ظهورها على يد الفلاسفة اليونانيين -سقراط وأفلاطون، فهي أفكار لها عمق تاريخي، لكنها جاءت في إطار وبنية وتوقيت صادم ومفاجئ ومؤثر. ويصاحب هذه التحولات إجراءات عنيفة، إذ وُجِهَت أغلب تلك التحولات الفكرية في البداية بالعنف المضاد والمقاومة، وهو العنف الذي قد يقتصر على الجانب الفكري وقد يتعداه إلى إلى الجوانب الاجتماعية والمادية. فإذا كانت تلك هي ثورة العقول، فما هي المراحل التي تمر بها عملية التحول؟ مراحل ثورة العقول تمر ثورة العقول بسلسلة من المراحل، وقبل البدء في سرد تلك المراحل(1) لابد من تثبيت عامل الزمن، وذلك بافتراض لحظة تاريخية معينة تسود فيها أطر عقلية وأساليب ومنهجيات تفكير محددة، ونظريات ورؤى وتعريفات للذات وللواقع المحيط، وانطلاقاً من ذلك الإطار العقلي أو تلك التصورات يتحدد شكل الفعل وشكل الاستجابة للتحديات التي يواجهها ذلك المجتمع في تلك اللحظة. وهذه الأفكار والنظريات والرؤى والأطر الحاكمة تحوي بداخلها أضدادها، فهي تحوي النقد الموجه لها والأفكار الشاذة – أي غير المطابقة للإطار العام الحاكم. فإذا كانت هذه هي اللحظة التي يمر بها المجتمع فإن أول مراحل ثورة العقول هي مرحلة الاكتشاف، وفيها يكتشف العقل – نتيجة تحد ما – عجز الأطر الفكرية الحاكمة والسائدة في تلك اللحظة عن الإجابة على أسئلة الواقع الملحة والمطروحة بقوة على الساحة السياسية والاجتماعية- ومن قبلها على الساحة الفكرية، وهو الاكتشاف الذي يأتي عبر المحاولات المستمرة والجادة لعمليات التباديل والتوافيق وتعديل المعادلات داخل الإطار الفكري نفسه. وهذه المرحلة لا تبدأ إلا إذا واجه المجتمع التحدي الخلاق، فعلى الرغم من مرور ذلك المجتمع بالعديد من التحديات؛ إلا أن هذا التحدي بلغ حداً من القوة تعجز الأطر العقلية القائمة في تلك اللحظة عن التعامل معه. وهنا تدين البشرية في تطورها إلى تلك التحديات الخلاقة التي ساعدت على استمرار توسيع الإطار العقلي الحاكم منذ العصور القديمة وحنى يومنا هذا. ويسلمنا ذلك الفشل في مواجهة ذلك التحدي إلى المرحلة الثانية ألا وهي مرحلة الرفض، إذ تسود حالة عامة من الرفض – الواعي أو غير الواعي، فكثير من النخب والمفكرين والعلماء يرفضون عن وعي ذلك الإطار الفكري، وتتجلى علمية الرفض تلك في كتابات تنقد ذلك الإطار، وتركز على جوانب النقص التي تعتريه وعلى عجزه عن إيجاد الوسيلة الذهبية، بينما الكثرة النشطة (2) ترفض هذا الإطار – دون وعي كاف لأبعاد الموضوع – لعجزه عن الإجابة على الأسئلة المحيرة التي تعتري المجتمع. تؤدي حالة الرفض المتصاعدة إلى دخول العقول في المرحلة الثالثة، ألا وهي مرحلة الأزمة، إذ ينتج عن إدراك أو شعور العلماء والمفكرين والنخب بعجز الإطار العقلي والفكري الحاكم والسائد عن إيجاد الأجوبة وعن إيجاد الوسيلة الذهبية المكافئة لذلك التحدي الخلاق وعن الرفض المتصاعد للنظريات والرؤى والأطروحات القائمة حالة الشعور بالأزمة والقلق والمعرفي، إذ أنهم يدركون أهمية وحتمية الخروج عن الإطار ولكنهم لا يعرفون كيف يخرجون منه، ويزيد من حالة الأزمة مطالبة الكثرة النشطة وإلحاحها عليهم لإيجاد الحل. وفي تلك المراحل الثلاثة الأولى تكون المقاومة على أشدها، تمتد مروحة العنف من الإرهاب الفكري إلى الطعن الشخصي وحتى استخدام العنف الاجتماعي أو المادي. ثم تأتي المرحلة الرابعة وهي مرحلة التحول، وفيها تعود الأفكار الشاذة والنقيضة داخل الإطار الفكري الحاكم إلى الظهور، وتكتسب الكثير من القوة، إذ تصبح مضرب المثل ويستشهد بها المفكرون والقادة والعلماء، ومن ثم تكتسب الأفكار قوتها من استخدام المفكرين لها وكتابتهم عنها. وابتداءً من هذه المرحلة تضعف المقاومة وتبدأ في السكون، وتتسرب العقول من معسكر المقاومة إلى معسكر الثورة، ابتداءاً على استحياء ثم بعد ذلك جهراً، لتصل إلى الفخر بالانتماء إلى معسكر الثورة في نهاية تلك المرحلة. وتسوقنا هذه المرحلة إلى المرحلة الخامسة التي تليها وهيمرحلة التنظير، إذ تتشكل هذه الأفكار الجديدة على شكل نظريات علمية جديدة، وهي التي تؤدي بالتالي إلى توسعة البارادايم أو الإطار الفكري. ومن ثم تكون الثورة العقلية قد بلغت ذروتها، واستوت على سوقها لتنتقل بعدها إلى عالم التطبيق بعد ما اختبرت قوتها في عالم الأفكار أمام مقاومة وعنف الإطار القديم. وهنا ينبغي التذكير بأن هذا الإطار الجديد يحوي أيضاً أفكاراً شاذة وعيوباً وهي تلك الأفكار التي ستتحول فيما بعد إلى الإطار أو البارادايم الجديد، وهكذا تسير العقول من ثورة إلى أخرى.
أحمد عبد الحكيم
1/12/2007
——————
(1) اختيار هذه المراحل فيه تأثر بما كتبه توماس كون عن بنية الثورة العلمية، ويمكن الرجوع إلى كتابه لقراءة أفكاره: Thomas S. Kuhn, Die Struktur wissenschaftlicher Revolutionen, Suhrkamp; Auflage: 1, November 2003. (2) يمكننا تقسيم المجتمع إلى ثلاثة شرائح كبري: شريحة النخبة العلمية والسياسية والاجتماعية، وشريحة الكثرة النشطة وتشمل عموم النشطاء في المجتمع في المجالات المختلفة، ثم شريحة العامة وهي الكثرة الغالبة في أي مجنمع والتي تنصب اهتماماتها وأولوياتها على أوضاعها المعيشية Thomas S. Kuhn, Die Struktur wissenschaftlicher Revolutionen, Suhrkamp; Auflage: 1, November 2003, S.