قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 21 يناير 2015
أيديولوجيا المستقبل
دعانا أحد الأصدقاء لتناول مشروب في الكافيتريا… أتى المشروب يتراقص بخاره.. أخذ أحدهم رشفة ثم قال: “هذا حليب مخلوط بشاي”.. قال آخر: “هذا شاي مخلوط بحليب… هتف الثالث: “بل ألمح رائحة قهوة في المشروب”، حينها نظرنا إلى المضيف لعله يفك الشفرة، فقال: هذا مشروب مشهور باسم “الكَرَكْ”[1]…. فأشرت بيدي نحو التلفاز قائلاً: “وهذا هو التلفاز الملون”!!
يلجأ البعض إلى تصنيف الناس وفقاً لتقسيمات يحتويها رأسه، فالشخص في سلوكه إما تافه أو جاد، ومن ناحية توجهاته الفكرية إما علمانية أو دينية، وهكذا يجب تصنيف كل إنسان وفقاً لخارطة التصنيفات في العقل، إما شارب شاي أو شارب حليب أو شارب قهوة!!
لقد كان التلفاز في البداية يقوم على الصورة المكونة من لونين، الأبيض والأسود، ثم ظهر التلفاز الملون مرتكزاً على ثلاثة ألوان أساسية، الأحمر والأخضر والأزرق، محاولاً إقناع الجماهير أن الحياة ليست خياراً بين الأسود والأبيض، فالكون مرسوم بخليط من الألوان، وليست ألوانه الأساسية هي الأبيض والأسود، إما معنا أو علينا، بل إن الألوان الأساسية نفسها يتدرج كل لون منها في 256 درجة لونية، تبدأ من 000 وتنتهي ب255، وعبر دمج هذه الدرجات نبصر الحقيقة، أو نكاد نبصرها.
ورغم دخول لغة الألوان واختراع التلفاز الملون في القرن العشرين إلا أن بعض الحركات السياسية حينها أبت إلا الاصطفاف حول الأيديولوجيا، محاولة إيجاد حالة من الفرز للمجتمعات، معتبرة الأيديولوجيا راية يُقاس صلاح الناس بمدى قربهم منها، فهذا علماني، وهذا إسلامي، وآخر شيوعي وآخر ليبرالي.
وقد تفاعلت هذه الأطروحات خلال القرن الماضي، وأكد كل فريق على ضرورة المفاصلة، فاندلعت حرب الأيديولوجيا التي كانت قائمة على إثبات أخطاء الآخرين، وغاب الأفق الثقافي والمعرفي الذي يبحث عن أفضل ما طرحته كل أيديولوجيا، فهل يشهد مسار الأيديولوجيا تطوراً؟؟
ربما لا يشهد المستقبل نهاية الأيديولوجيا، لكنه سيشهد تطورها وإعادة رسم ملامحها ومكوناتها، باعتبارها مجموعة من الأفكار المترابطة التي تفسر الواقع وتستشرف المستقبل، وستكون إفراز لخليط بين الأفكار لإنتاج منتج فكري جديد أشبه بال”كَرَكْ”، فليس كل ما طرحه مفكرو الشيوعية شراً، أو ما وصل إليه الليبراليون كله واجب الاتباع، أو فهم الإسلاميين لدينهم بالضرورة كله صحيحاً أو خطأً، ففي كل فكر سنجد درراً – قلت أو كثرت-أطلقها مفكروه، والأحرى بنا أن نبذل الجهد في التنقيب عن المعدن النفيس تحت الأرض، بدلاً من أن ننظر باستعلاء وسطحية مروجين لأن عمق أراضي الآخرين مظلم، وكلما ازددنا غوصاً في الأعماق كلما ازداد تشبثنا بالظلام!! خاصة أن الشباب الصاعد لم يشهد صراع الأيديولوجيا في القرن السابق، وليس من الحكمة أن يرث عداء الأفكار قبل أن يدرسها بهدف الاستفادة من أعظم ما توصل إليه الفكر الإنساني في كل عصر. وليس من الإنصاف أن يقول بنضوب أراضي الآخرين من كل المعادن النفيسة.
ليس أبناء اليوم بالضرورة مضطرين لاتباع أيديولوجيات طرحت في القرن الماضي، فهي لم تكن إلا استجابات لتحديات الواقع حينها وتصورات لطريقة تغييره، فليتعرفوا عليها ويأخذوا أعظم ما فيها، ثم يؤمنوا أن القرن الجديد سيشهد حتماً أطروحاته الجديدة التي ستُعجز هواة تصنيف البشر أن يجدوا للشباب الجديد تصنيفاً في قاموسهم الأيديولوجي القديم.
إن القرن الجديد سيشهد شباباً حراً يصوغ أيديولوجيا جديدة قائمة على العلم، وعلى الاستفادة من المعرفة الإنسانية أينما كانت، لا تلفظ التراث[2] كلية ولا تبالغ في مجاملته، فهي أيديولوجيا ديناميكية وليست استاتيكية، تتطور بتطور العلوم ولا تأبه كثيراً بعبادة أصنام المفكرين ورواد الإصلاح لترتل كلامهم على اعتباره ذكراً سماوياً، أو تدخل في معارك للدفاع عن الأموات منهم وإثبات أحقيتهم بالاتباع. إن أيديولوجيا المستقبل ليست حليباً وإن كان الحليب جوهرها، وليست شاياً وإن كان الشاي يعطيها المذاق، وليست قهوة وإن كانت القهوة هي صاحبة البصمة المميزة، إنها شيء جديد اسمه “الكَرَكْ”.
وشباب هذه الأيديولوجيا ليسوا علمانيين أو ماركسيين أو إسلاميين أو ليبراليين بمفهوم القرن الماضي، فهذه المصطلحات تعجز عن أن تبلور فكرهم، لأنهم يدركون عمق التداخل بين الأفكار في الفكر الإنساني، ويؤمنون أن الحقيقة لا يحتكرها أحد، وأن في ثنايا كل طرح من هذه الأطروحات النافع من الأفكار التي يمكن الاستفادة منها، فليس هناك أبيض أو أسود، عالم أوجاهل، فالإنسان قد يكون عالماً بقضية وجاهلاً بأخرى، مؤيداً لموقف ومعارضاً لآخر، إن إنسان القرن الجديد يدرك وجوب التخلص من وهم الأبيض والأسود في العقول، فاللون الأبيض خليط بين الأخضر والأزرق والأحمر بدرجة 255 لكل لون، واللون الأسود خليط بين الأخضر والأزرق والأحمر بدرجة 000 لكل لون. فالأسود هو نتاج خلطة فكرية معينة، والأبيض هو نتاج خلطة أخرى، والقول بنقاء فكرة وعدم استفادتها من الأفكار الأخرى يعني جمود هذه الفكرة وتجاوز التطور البشري لها، والأفكار تتلاقي في بعض نقاطها وتتنافر كذلك.
شرحت لهم فكرة الألوان بعد أن أشرت صوب التلفاز الملون في الكافيتريا، حاول أحد زملائي تصنيفي بين العلمانية أو الليبرالية أو الماركسية أو الإسلامية فسألته ألا يجهد نفسه، فمكاني ليس في كوب القرن الماضي، ومصطلح “كَرَكْ” لا يمكن لإنسان أن يتخيله إن لم يره-بل يتذوقه- من قبل، أخبرته أنه بذلك يحاول قذفي في غياهب مقاهي القرن العشرين، متخيلاً إياي مرتدياً الطربوش الأحمر وأندد بالاحتلال الإيطالي لليبيا، حاولت لفت انتباهه إلى أن تصنيفاته كلها من الماضي في حين أن رسالتي من المستقبل، وأنني أنتمي إلى جيل شبابي ليست له ثارات مع الأيديولوجيات، فعدد الألوان التي يمكن الحصول عليها بمزج الألوان الثلاثة الأساسية هي
16777216 = 256×256×256 لوناً
وكذلك حجم أو عدد ما يمكن أن ينتج في العقل من تصورات بدمج أفضل ما وصل إليه الإنتاج الإنساني المعرفي الفكري هو عدد ضخم أعقد من إمكانية تصنيف صاحبه وفق تصنيفات القرن العشرين قبل اختراع التلفزيون الملون، والنكهة الجديدة للأيديولوجيا ليست نكهة الشاي أو الحليب أو القهوة، ولكنها نكهة متفردة اسمها “الكَرَكْ“.[3]
وائل عادل
6/9/2007
——————————————————————-
[1] مشروب “الكرك” هو مشروب شائع بهذا الاسم في بعض دول الخليج، وله أكثر من طريقة في تحضيره، وقد عبرنا عنه هنا بهذه المكونات إيصالاً للمعنى.
[2] لا أتعرض في هذا الموضوع لفكرة الأديان وعمل خليط من المعتقدات، ولكنني أتحدث عن الاستفادة من التجربة الإنسانية في إدارة الحياة وتطويرها، فليست الأيديولوجيا مرادفاً للدين، وليست بالضرورة كل الأيديولوجيات منطلقة من مرجعية دينية، وهي حين تنطلق من مرجعية دينية لا ترادف النص المقدس، وإنما هي نتاج فهم النص المقدس، يضاف إليه المخزون الفكري من علوم العصر والثقافة السائدة في عقل المنظر طارح الأيديولوجيا، لذلك لا توجد أيديولوجيا – حتى ولو لها مرجعية دينية – مقدسة، أي أن أصحاب الدين الواحد قد يخرجون بأيديولوجيات متعددة، وإبداع أيديولوجيا جديدة تجيب على أسئلة الواقع يتطلب بجانب العودة إلى النظر في النصوص المرجعية إلى عقل حر يطلع على كل الثقافات والأفكار بهدف الاستفادة منها وأخذ أفضل ما فيها.
[3] قبل الحرب العالمية الثانية كانت هناك ثلاثة أنظمة سياسية أساسية: النظام الفاشي مثل ألمانيا، والشيوعي مثل الاتحاد السوفيتي والديمقراطي الرأسمالي مثل أمريكا، بعد ذلك ظهرت أنظمة في الوسط مثل النمسا وألمانيا،حيث اختارت نموذجاً خاصاً بها يجمع بين مزايا الاشتراكية في النظام الاقتصادي بدرجة من الدرجات، ومزايا الديمقراطية في النظام السياسي.