قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 21 يناير 2015
حدد العقدة… وأبدع الحل
بدأ صديقي يشرح لي الصعوبات التي تواجهه وهو يتعلم قيادة السيارات في مدرسة متخصصة، كان عليه أن ينظر إلى المرآة الأمامية ليرى القادمين من الخلف، ولابد أن يعير نظراته بين الحين والآخر للمرايا الجانبية، وأن يحسن تقدير المسافة بين مقدمة سيارته ومؤخرة السيارة التي أمامه، وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، فهناك ناقل السرعات الذي طالما أعجزه وحار في حفظ طريقة استخدامه، ناهيك عن التحكم في عجلة القيادة، أما استخدام الإشارات فأمر غالباً ما ينساه، وكم غافله مؤشر الحرارة والوقود ليكتشف نفسه قاب قوسين أو أدنى من توقف السيارة عن العمل، أما القاصمة فكانت أن يبتلى بشخص ثرثار يجلس بجواره. ضاق صديقي ذرعاً بعد ثلاثة أيام من التعلم، صرخ في معلمه: “مستحيل أن تتركوني أقوم بكل هذا بمفردي… الوضع معقد جداً“.
أخبرته أن يتريث، ولا يتسرع بقرار ترك مدرسة تعليم قيادة السيارات، وأن ينظر إلى من حوله، فهاهن بنات ونساء يقدن بشكل عفوي، وها هم شباب دون الثامنة عشرة يحسنون القيادة. فبالتدريب سيكتسب تلقائية القيادة، ويحسن التعامل مع هذا الوضع المعقد.
ربما لم يدرك صديقي أن القيادة في ظل الأوضاع المعقدة من أهم سمات القادة، فندب الواقع، واتهامه بالتعقيد أمر ينزع صفة القيادة عن مدعيها، وهل أشرقت إطلالة القادة على الوجود إلا لأنهم يمتلكون رؤية معالجة هذا الواقع المعقد؟! أليست المواقف المعقدة هي التي تستدعي وجود القادة؟؟! وإلا فما جدوى ادعائهم التميز على من حولهم، إن كانوا يصرخون مثل عامة الناس “الوضع معقد جداً“.
في المؤسسات المتطورة عندما يتقدم شخص ما للقيادة، فإنه يتقدم برؤية، ويستعرض برنامجه الذي سيميزه وسيتمكن به من اختراق تعقيدات الواقع وتفكيكها. فهو يطرح نفسه كقائد لأنه يمتلك رؤية تعبر بالمؤسسة من نفق يحتويها وتنطلق بها إلى فضاء رحب، أما من يجلسون على مقعد القيادة بالخطأ؛ أولئك يهولهم الموقف، ويفاجأون أن قيادة السيارة – في البدايات- لا تحقق المتعة المتوهمة، حيث يستمع السائق إلى الموسيقى الناعمة، متنقلاً بمرونة من حارة إلى أخرى، ومن سرعة إلى سرعة، فهناك الكثير من التدريب الذي يخوضه قائد السيارة البارع قبل أن يصل إلى مرحلة القيادة بتلقائية، والاستمتاع بأداء ما يبدو معقداً.
والقائد البارع لم يتوقف عن ممارسة العمليات المعقدة والمتشابكة، ولكنه ألف التعامل معها كما يألف الطفل السير بعد أن تخذله قدماه مراراً وهو يحاول المشي، إنك إن سألت شاباً كيف تتمكن من السير على اثنين لازدراك!! ترى هل تغير الوضع المعقد أم أن التعقيد مصطلح متحرك وليس ثابتاً، يتلبس بالأشياء حيناً ثم يهجرها؟؟ هل هو حكم يطلقه العقل على الأشياء أم أنه جزء من طبيعة الأشياء؟! أتراه كائناً حياً له وجود حقيقي، أم أنه خلق من مخلوقات غابة العقل سرعان ما ينقرض إن غير العقل معارفه ومهاراته؟!
إن القعود عن الفعل، أو تبرير القفز في المكان بحجة تعقيد الواقع أشبه بعتاب طالب اللغة الإنجليزية لمعلمه الذي لم يكتب كلمة واحدة بالعربية في الامتحان، ولطالب الكيمياء الذي يطعن في العلم المليء بالمعادلات، ولطالب الرياضيات الذي يندهش من لغة الأرقام. وللممثل المذهول والمتسائل!! أنى له بالتمثيل والجمهور يتتبع كل خطوة له على خشبة المسرح، ولمصارع الثيران الذي نظر إلى الثور الهائج، والجمهور المحتشد، وإلى ملاءته الحمراء ثم صرخ… “الوضع معقد جداً“. فهل كان الجمهور سيحتشد إلا ليشهد كيف سيصرع البطل مصطلح التعقيد؟! ترى لو كان الثور أليفاً، يأكل من يد صاحبنا، هل سيستحق لقب المصارع البطل؟؟!! وهل كانت الآلاف ستُنفق إلا من أجل نظرة إليه وهو يسفك دم التعقيد ويطأه بقدمه في ثبات؟! “الوضع معقد جداً“ … يوم تخرج من فم القائد فإنها تعني رفع الراية البيضاء في وسط المعركة.
والاعتراف بتعقيد الواقع أمر محمود إن كان المراد منه فهم الواقع للتعاطي معه بوعي، لأنه يُبعد الإنسان عن السذاجة في تفسير ما يدور حوله، وهو كذلك جدير بجعل المرء يفكر بمستوى راق ومنهجية قادرة على قهر هذا التعقيد، وأن يتدرب على تفكيك المعادلات الصعبة، كالطالب الذكي المتمرس الذي يعشق تحدي المسائل الرياضية المعقدة، فيصيح مختالاً.. “أنا لها“.. أما المسائل البسيطة فيحيلها إلى البسطاء.
ويتطلب التعاطي مع الواقع المعقد نمطاً متطوراً من التفكير، وهذا لا يعني أن الحل سيكون بالضرورة معقداً، بل قد يكون في قمة البساطة، فخبراء تفكيك الواقع يحددون ابتداءً ما يسمى بعقدة الموقف، أو عقدة الصراع، وتعني ما هي العقدة التي إذا تم حلها ستُحَّل بقية العُقد؟ فها هم رواد الفضاء يواجههم تحدي الكتابة في الفضاء، فانعدام الجاذبية أعجز الحبر عن الانسياب من القلم، وبدأت وكالة الفضاء “NASA” دراساتها حول كيفية التعامل مع الوضع المعقد بمحاولة تطوير قلم يكتب في الفضاء، وتكلفت الدراسات ما يزيد على المليون دولار، إلا أن الروس فككوا تعقيد الموقف بحل بسيط، وهو استخدام القلم الرصاص، لأنهم أحسنوا تحديد عقدة الموقف.. فليست العقدة في كيفية إجبار القلم الحبر أن يكتب رغم أنف قانون الجاذبية، لكن العقدة كانت كيف نكتب في الفضاء؟، بغض النظر عن مصير القلم الحبر.[1]
كم من أوضاع معقدة فككتها أدوات بسيطة، لأن التحدي الكبير ليس في توافر الأداة، بل في توافر العقل المشبع بنمط التفكير الثائر على الواقع، المتمرد على الهزيمة، المستعصي على الانبطاح، فالعقل إن آمن بقدرته على فك التعقيد أبدع أدوات البطولة، وهل كانت النهضة في الصين التي عانت من احتلال أكثر من دولة لها وغرقت في الفقر والتخلف إلا حجة على بني الإنسان المهزومين؟! وحرِّر عقلك من وهم العقد بنظرة إلى اليابان المتألقة التي دمرتها الحرب وحاولت تشويه نفسية شعب، بل وتأبى الأرض أن تستقر بها فتجتاحها الزلازل، لكنها في النهاية تقدم نموذجاً لعبقرية الإنسان القادر على فك العقد. إنه قرار يعكس قدرة العقل، إما قرار خطابي هارب يحيل العجز عن التفكير إلى الواقع المعقد، أو قرار علمي جريء …”ستبدأ عملية التفكيك“.
فليدرك عشاق التحولات الحضارية أن العُقَد غالباً ما كانت حتمية الوجود في حياة الأمم، وأنها ليست الشبح المخيف بل التحدي المستفز، فيتعرفون عليها جيداً بشكل علمي، ثم يبدأون بتفكيك العقدة الرئيسة، لتتوالي حركة الدومينو، وتُحَّل العقد صاغرة، وتُفتح بوابة المستقبل، وليس بالضرورة أن وسيلة تفكيك الواقع المعقد ستكون معقدة، المهم ألا يُشَّل العقل وتصيبه هلوثة العقد، فيضرب عن عملية التفكير متوهماً أنه أوتي الحكمة قائلاً… “الوضع معقد جداً“.
وائل عادل
28/7/2007
——————————————
[1] للرجوع إلى تفاصيل اختراع قلم للكتابة يستخدمه رواد الفضاء يمكن زيارة موقع الوكالة الفضائية NASA http://history.nasa.gov/spacepen.html