قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 21 يناير 2015
صناعة التغيير على أسس علمية
كان يوماً مرهقاً ذهبت فيه إلى طبيب الأسنان… أجلسني على كرسيه المخيف، وأعمل أدواته في فكي…وفي طريق عودتي ذهبت إلى الجزار… وبينما هو يجهز اللحم لفت انتباهي معطفه الأبيض… إنه نفس معطف طبيب الأسنان… شوهته بعشوائية بعض الدماء كتلك التي خرجت من فمي… تدحرجت نظراتي لتصل إلى يديه، فهو يمسك أدوات لا تختلف كثيراً عن تلك التي كانت تعمل في فكي وتطحن أسناني… أما الضحية فواحدة… قطعة لحم…وجسد مستسلم للمشارط والسكاكين.
لم يكن الشبه في ذلك فحسب، هناك ما هو أهم … السؤال… الذي انطلق بعفوية قبل أن أذهب إلى كليهما… من هو؟؟ هل هو طبيب ماهر؟ ما خبرته؟ ما شهاداته؟
هل هو جزار متميز؟ هل سيعطيني لحماً جيداً خالياً من الدهون؟
إننا نأبى أن يجري طبيب عملية جراحية في أجسادنا دون أن يكون متخصصاً، بل ونسأل أولاً عن شهاداته ومدى خبراته قبل أن يتجرأ أحدنا ليضع نفسه تحت رحمة مشرطه وحقنته، فهل يُعقل في علاج المجتمعات وإعادة الحيوية فيها أن يمسك كل هاو سكينه ليقطع في جسد المجتمع ويشوهه كيف شاء؟! فلعله يقتل المجتمع بجهله، ويخنق أنفاسه، ثم يشكو من مرارة لحمه، وأنه يستعصي على الطهي. وقد يشكو عدم استجابة المجتمع حين يستحثه للنهوض بعد أن كسر أرجله بيديه. ويتأسف على صفرة وجه المجتمع بعد أن أراق معظم دمه بمحاولات عابثة غير مدروسة أصابته باليأس. إنها نتيجة طبيعية حين يشتغل الطبيب بالهندسة، ويشتغل الفلاح بتدريس السياسة. فتعجز عن تمييز صاحب المعطف الأبيض، أهو جزار أم طبيب؟!
إن المحاولات المتنوعة لإحداث التغيير مطلوبة، وتشجيع حرية الأفراد والمؤسسات للتفاعل الحي بمبادراتهم أمر يدل على حيوية المجتمع، والمعيار الحاكم هنا هو مدى انطلاق هذه المبادرات من أسس علمية، حتى لا تُبتلى المجتمعات بالسفاحين.
فقد ترى في بعض المجتمعات “جزارات التغيير“، يزين قادتها خصرهم بسكاكين متنوعة الأحجام، ولا يدرون كثيراً عن علوم التغيير والتحول الاجتماعي، إنهم يمارسون الفعل معتمدين العُرف والهوى منهجاً، ممتشقين سكاكينهم ويعملونها في جسد المجتمع بلا هوداة، فإن لم تعمل أخذوا سكيناً آخر، فلا بأس من إعادة التجربة.
إن سياسة “الفتونة“ من أخطر السياسات على المجتمع، حين يُعتمد الارتجال أسلوباً لإدارة التغيير، يفتي فيه كل فرد عالماً كان أو جاهلاً، وكأنه مجال بسيط لا يحدد مصير شعوب، فإن كنا لا نسمح لطبيب هاو أن يعبث بأجسادنا، فكيف يعبث بأقدار المجتمعات مجموعة من الهواة. وكما أن وجود الطبيب المحترف ضرورة في المجتمع، فإن وجود رجالات التغيير المحترفين والملمين بعلوم التغيير من أهم عناصر النجاح. وليس بالضرورة أن يتجسد العلم في شهادات من أرقى الجامعات في العالم- فليست هذه هي الطريقة الوحيدة للتعلم، فالعلم اليوم متاح وميسر بدرجة كبيرة وأشكال متنوعة لطلبة العلم.
ولعل من أسباب زهد جماهير بعض المجتمعات في قيادات الحراك فيها هو يقينها أنهم هواة، ليس بالضرورة لأن الجماهير على درجة عالية من الثقافة أو التعليم، ولكن لأنهم يملكون الذكاء الفطري الذي يجعل المريض العاقل لا يسلم نفسه لأي طبيب كي يجري له الجراحة، ولأنهم يتميزون بالتفكير المنطقي الذي يستحث المصاب بألم الأسنان أن يبادر بسؤال طبيبه وكأنه ند له… “ألن تخدرني؟؟”… أضف إلى ذلك ارتفاع سعر الفاتورة التي قد تطلبها قيادات التحول من الجماهير… حينها يهتف الجمهور “لستُ مريضاً… ابحثوا عن مريض غيري”… ترى ما موقف الجمهور بعد كل ذلك إن نعته طبيبه بالتخلف والسلبية؟!!
وعندما تفشل عمليات التحول الاجتماعي، فإن أول ما يجب فعله مراجعة ما قامت به قيادات التحول، ومحاكمة الفعل ونمط التفكير بالقواعد العلمية المتعلقة بإحداث التحولات، والتوقف عن عتاب الخصوم ولوم الجماهير، والانشغال بالذات والتأكد من عمق جذور ثقافة التغيير وأدواته لدى القيادات وأتباعها، ترى ما النتيجة المتوقعة لمن يتصدى للتغيير وهو أعزل لا يملك خلفية ثقافية علمية عن وسائل التغيير وحالات نجاح كل وسيلة؟! أليس من دواعي الفشل أن يسعى كل فريق لإثبات فاعلية وسيلته ولو لم تعمل في المجتمع، بدلاً من البحث عن الوسيلة الذهبية؟؟!! إن الفشل هو الصورة الشاحبة الطبيعية التي تظهر عندما ينظر الجهل في المرآة، فليس السبب الأساس لأزمة الطبيب الذي يعاني قلة المرضى -أو الجزار الذي يحذر الناس من شراء اللحم منه- هو الجمهور الممتنع.
إن المجتمع – كل المجتمع – مدعو لصناعة المستقبل، والمبادرات المستمرة والجريئة أشبه بنبض المجتمعات ودقات قلبه التي يجب ألا تتوقف، خاصة عندما ترتكز على أسس علمية، علم بطبيعة القضية المطروحة للتغيير وأطرافها، وبكل الخيارات العلمية للتعاطي مع هذه القضية.
وربما لا يلام الجمهور الذي عبر عن أشواقه للتغيير بشكل عفوي، فالمستيقظ من نومه قد لا يتحسس طريقه إلى مفتاح النور، وإنما يقع اللوم على مراكز الدراسات والقيادات التي لم توجه وتجهد في إنتاج الثقافة التغييرية وإيصالها للجماهير.
ومن ناحية أخرى نرى في بعض الدول المتقدمة حرصاً على العلمية في أية وظيفة يمكن أن يمارسها الإنسان، فحتى الأعمال الحرفية البسيطة التي قد لا تتجاوز رفع شيء من مكانه أو تنظيف مكان ما والتي يُعتقد أن أي إنسان يمكن أن يمارسها، فإن صاحبها لا يعمل بشكل رسمي إلا بشهادة. فهي مجتمعات تتأسس على العلمية.
وعلى المجتمعات التي تتطلع إلى صناعة المستقبل أن تعيد الاعتبار للعلم، وتحول جزارات التغيير إلى معامل التغيير، تزينها معاطف العلماء البيضاء، وتفوح برائحة أجهزة الرصد والتحليل والتنبؤ الحديثة، حيث تعتمد صناعة التغيير على أسس علمية لا تنحاز إلى الأهواء العاطفية، ويصبح العلم مرجعية في كل مجال، وتصمت الأحكام والخيارات العاطفية لتتحدث الاستراتيجية، وتصبح المؤشرات الدقيقة هي الميزان، فيميز المجتمع الغث من السمين، والهاوي من المحترف، والطريق من اللاطريق، والجزار من الجراح.
وائــل عــادل
15/7/2007