قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 21 يناير 2015
انتبه… عقلك ينزف
كان مشهداً مروعاً… هرول الناس وتجمعوا… لم تأت سيارة الإسعاف بعد… أخرج صديقي أدوات الإسعافات الأولية من سيارته… راقبته وهو يتفحص المصاب… لم تكن هناك آثار لإصابات اللهم إلا بعض الكدمات… حمدت الله بصوت مسموع… قال: “ربنا يستر”… سألته: “هل توجد مشكلة؟”… أجابني: “أخشى أن يكون أصيب بنزيف داخلي”.
من أخطر ما ينتج عن إصابات الرأس حدوث نزيف في المخ، فتنفجر الشرايين التي تغذيه بالأكسجين، لكن الأخطر من ذلك أن يصيب العقل هذا النزيف، فتحدث السكتة الدماغية، ويتوقف إمداد العقل بدماء الأفكار الجديدة، فلا يصل أكسجين الإبداع إلى أنسجة الحياة. وربما تموت خلايا المخ في دقائق بسيطة، ويموت الإنسان، وإن ظن أنه حي.
ومن أسباب خطورة النزيف الداخلي أن صاحبه قد لا يشعر أنه مصاب، فتتوهم المؤسسات أنها مستقرة، وفي قمة عافيتها، ولكنها تنزف من الداخل، وتعاني خللاً في وصول الأفكار إلى عقلها، إنها قائمة بهياكلها وأشخاصها، لكن عقلها يحتضر.
ترى أي جريمة ترتكب في حق مشروع ما عندما يُتلف أحدهم الشرايين، فيختل نظام توصيل الأفكار، ويحتار العاملون!! أين تذهب الأفكار؟؟!! وكيف تتسرب تدريجياً وتتلاشى قبل أن تصل إلى عقل المؤسسة؟! وما سبب حالة الدوار التي تُلاحَظ في أعين القيادة عند سماع الأفكار في حالة وصولها؟!
إن القلب لا يموت إلا إذا مات المخ، ولا تتطور المجتمعات إن فقدت القدرة على التفكير… يستطيع القلب أن يضخ دماء الحياة في الجسد، لكنه يعجز عن إدارتها، فالعقل هو الذي يدير الحياة. وأي مشروع مثل الكائن الحي، يموت إن مات عقله. فالأعداد الضخمة من العاملين، والإجراءات المعقدة التي تمثل شرايين المشروع لا تجدي نفعاً إن مات عقله، حينها تموت العين فتغيب الرؤية، وتتيبس العضلات فيصمت الفعل، وتُضرِب الشرايين فتذبل الحيوية. وهل تغني العضلات الفتية، والعين الحادة، والشرايين النشطة، عن الجسم شيئاً إن مات المخ؟!!
ولنزيف العقول أعراض كثيرة، قد تتلمسها في أقوال المصاب أو أفعاله، فعندما ينظر إليك شخص ما، ويسألك “ما البديل؟” دون أن يتكبد عناء التفكير في بديل فإن عقله ينزف، وعندما يجزم آخر “لا يوجد حل للأزمة“، بدلاً من أن يقول “لا أعرف حلاً للأزمة“، فهو على خطر كبير… وهناك حالات مستعصية تسأل مثل هذه الأسئلة بهدف تأكيد غياب الإجابة، وليس بحثاً عن إجابة، لسان حال السائل: “لا يوجد بديل، ولا يوجد حل للأزمة، ولا تحاول التفكير في حل“… إذا وَجَدَّت مثل هذه الحالات، فلا تتردد في إبلاغ الإسعاف… أنت أمام عقل ينزف…
ويجب أن تتأكد أنك أيضاً معافى من النزيف، فإذا وجدت نفسك تردد مثل هذه المقولات مفوضاً غيرك في التفكير نيابة عنك، أو متحدياً الآخرين بعبقرية أسئلتك أن يأتوا بحل.. فانتبه… عقلك تسحقه اضطرابات… أنت تعاني من نزيف العقول… وتفكر داخل بحيرة من الدماء. فإن نطقت سال الدم على شفتيك في ثوب فكرة معيقة أو نبرة يائسة، وإن نظرت بعينك الملتهبة رأيت المستحيل في الأفق يحتويك، وإن سمعت رأيت الناس تعاديك ولا تنصح لك، ولربما لم تسمع إلا ما تريد أو ما يريد خصومك أن تسمعه.
إن المجتمعات الحية تهتم بإسعاف العقول، وتزويدها بأنماط التفكير السليمة، وتحرص على ارتفاع منسوب التفكير لدى الأفراد، وسنجد في المستقبل وحدات لإسعاف العقول مجهزة بأحدث ما توصل إليه العلم من معارف ومهارات تقوي العقول، فكما نرى سيارات الإسعاف تُفتح لها الطرقات للحفاظ على الأجساد، فأولى أن تُفتح الطرقات لمهندسي العقول، ولا بأس إن اتخذت سيارات إسعاف العقول لها لوناً وصوتاً مميزيْن، كي تُذَلَّل لها الطرقات، فثمة جريمة ستُرتكب بحق العقول في إحدى المؤسسات، والفاعل مدير يمزق الشرايين ليلاً، وهناك قرارات مصيرية تتخذها عقول بسيطة لا تدري كثيراً عن العالم، وهناك سلوك يطعن وحدة المجتمع، يدبر له عقل مشوه تضخم شعوره بالذات في أحد المخابيء، إنها سيارات لا تسعف الإنسان وحده، بل تسعف المجتمع كله، وهي ليست معنية بصيانة الأجساد؛ بل انصبت جهودها على صيانة العقول… وهل يحيا الجسد بدون عقل؟!!
وائل عادل
9/7/2007