قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 21 يناير 2015
فن الرؤية الكلية
وقفَتْ أمام المرآة… اقتربَتْ… ابتعدَتْ قليلاً… اقتربَتْ… اقتربَتْ جداً… ابتعدَتْ جداً…
اقتربَتْ لتزيل آثار صابون على فمها… وابتعدَتْ قليلاً لتُمَشِّط شعرها… اقتربَتْ لتزيل بقايا شعر على كتفها… اقتربَتْ جداً لرؤية عينها التي احمرت كأنها تعاقبها على السهر… وابتعدَتْ جداً لترى كامل صورتها في المرآة وتتأكد من تناسق ألوان الزي مع الحذاء.
إننا نمارس بصفة يومية هذا السلوك بين الاقتراب والابتعاد، وندرك بطبيعتنا أن رؤية الأشياء وفهمها يتطلب الابتعاد كما يتطلب الاقتراب. فكلها أدوات للرؤية، يجدر استخدامها بفن وتلقائية. غير أننا نحتاج إلى المزيد من هذا الفن والتلقائية في تعاملنا اليومي مع الأفكار، وتكوين وجهات النظر، فعندما تبدي رأيك في مؤسسة أو قضية تجد أحياناً صواعق تنصب عليك، كأن تخترق أذنك مقولات مثل “أنت لا تمتلك الصورة الكلية“، “أنت تتحدث وأنت بعيد عن الحدث“. والعجيب أننا إذا سلمنا بأن على كل صاحب رأي – قبل أن يتحدث -أن يلتحق أولاً بالمؤسسة أو الحزب الذي يبدي رأيه فيه؛ لكان على الكاتب السياسي الذي يدين الاقتتال الداخلي أن يحمل مدفعه وينخرط في صف من يدينه ليستوعب الموقف، ولطلبت الحكومات من أحزاب المعارضة – قبل أن تعارض- أن تنضم إلى الحزب الحاكم لعلها تتفهم عظم المسئولية، ولأصبح واجباً على الشعوب الرافضة للهيمنة الأجنبية أن تستسلم لبرنامج الهيمنة أولاً لعلها تدرك ما لم تدركه بعيداً عن البرنامج.
ترى هل تفعل المؤسسات نفس الأمر مع المادحين؟؟ هل تقول لهم لا تمدحوا قبل أن تقتربوا الاقتراب الكافي؟؟ فإن كانت منهجية النقد -سلباً أو إيجاباً مدحاً أو ذماً- قائمة على الاقتراب، فلم لا تُعتقل كلمات الثناء والمديح، ولا يفرج عنها إلا إن ثبت اقتراب المادح من الفكرة؟!
يقولون “من يده في النار ليس كواضع يده في الماء”، وهذا صحيح فالذي يضع يده في الماء أقدر على علاج صاحب اليد الملتهبة، الذي في الغالب سيفقد القدرة على إعمال عقله، وليس من الحكمة أن نرسل له كتيبة إسعاف أكلتها النار، ربما اشتم منها رائحة الموت، بدلاً من أن تنعشه بعبير الحياة.
إننا أمام سؤال جوهري… ما طبيعة الاقتراب المطلوب حتى يمكن محاورة المؤسسات وأصحاب المشاريع، وما درجة هذا الاقتراب؟ وكيف يتم؟
ألسنا أحياناً نكتفي بالاقتراب من المنتج حتى نحكم على الأمور؟ ألست إن قدمت لك وجبة فاسدة في مطعم تشتاط غضباً وربما توجع الإدارة توبيخاً إن قالت لك: “معذرة سيدي… أنت لا ترى الصورة الكلية … أنت تحكم على الظاهر… لدينا فريق طهي محترف”.. أليست بعض المؤسسات كالبنوك ترتضي وجود صندوق الشكاوى كوسيلة لتلقي الآراء من الخارج دون أن تشترط على المقترح الإلمام بتفاصيل إدارة البنك، ولم نر فريق كرة قدم يتهم مشجعيه بأنهم في برج عاجي عندما ينهالون على فريقهم بالعتاب وينادونه بوقف عبث إضاعة الأهداف رغم أنهم لا يعلمون كثيراً عن ملابسات إخفاق الفريق. إننا بحاجة إلى تحديد معنى الاقتراب.. فهل يكفي الاقتراب من المنتَج؟ هل تكفي رؤية المسار والنتائج للحكم بأثر عكسي على خلل أو صواب الإجراءات غير المرئية؟؟!!
أحياناً يكون الابتعاد المكاني هو عين الاقتراب من تكوين صورة سليمة، فالابتعاد مطلوب لتجنب التفكير تحت مطارق الضغوط. وهو في ذات الوقت اقتراب من فهم الواقع، ورؤية صورة لا يمكن التقاطها إلا من بُعد، والاقتراب المكاني كذلك مطلوب لأخذ بعض الصور التفصيلية الدقيقة.
لذلك فصناعة المستقبل تتطلب مؤسسات واعية، تتلمس آراء المحلقين، وتفتخر بحجم الراصدين لها على اختلاف ارتفاعاتهم، وتؤمن بأهمية دور التقويم القريب البعيد، فهو قريب بعمق أدوات رصد الظاهرة بمختلف أبعادها، وبعيد عن أن يذوب فيها أو يكون جزءاً منها. فشتان بين الاقتراب والاندماج. شتان بين أن تقترب لتذوب، وبين أن تقترب لترصد.
نحن في حاجة إلى ارتفاع مناسب للتحليق، فإن ارتفعنا بعيداًً رأينا المعالم الكبرى دون التفاصيل، وإن اقتربنا شيئاً فشيئاً تبدأ التفاصيل تتضح، لكنك إن هبطت إلى الأرض عجزت عن رؤية الصورة كاملة، فربما ظننتَ أن العالم هو المربع الذي تقف فيه.. فكيف إذا كنت مدفوناً في حفرة داخل الأرض؟؟!! حينها ترى العالم كتلاً صخرية، وتتخذ من شعاع الشمس عدواً!!
وائل عادل
3/7/2007