قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 20 يناير 2015
التغيير يبدأ من الخارج
كنت أراه يومياً يرش المياه أمام المحل، ويبيع الفول الشهي في دكانه المتواضع “ملك الفول“… وكان “عم درويش” بالفعل هو ملك الفول.. فلم يكن في المنطقة سواه، كان الإقبال عليه كبيراً رغم إهماله لمظهر الدكان ونوعية وطريقة تقديم الخدمة، كان يعد الرغيف ثم يعطي للمشتري كيساً ليضع بنفسه الرغيف في الكيس، ولم لا … أليس هو ملك الفول؟!!
كثيراً ما حدثته ونصحته أن يطور من مظهر الدكان لينال لقب “مطعم”، ويهتم بخدمة الزبائن، فكان يردد: “هذا الأمر يتطلب مالاً وفيراً، كما أن الدكان يعمل منذ سنوات والإقبال يزداد، ومع ذلك سنطور قريباً.. إن شاء الله.. إن شاء الله.. ضع كل مقترحاتك في صندوق الشكاوى!!”
مرت سنوات وملك الفول يتعالى على رعيته، واضعاً صندوق الشكاوى فوق سلة المهملات. ظل الوضع كذلك إلى أن ظهر مطعم فول فخم يجاوره، يقدم أرقى الخدمات. فر الجمهور إلى المطعم الجديد… جُن جنون ملك الفول… فهو تاريخياً أقدم في المكان، وأدرى بالزبائن، حينها كان لابد أن يبدأ رحلة التحول، فأسس أفخر الأثاث، ووحَّد ثياب العاملين، سألته أن يقتصد في المصاريف، فأخبرني أنه سيطور نوعية مأكولاته لتشمل كل أنواع الوجبات السريعة، أعاد تسمية المطعم، فغيره من “ملك الفول” إلى “صباح الفل“.
وباستقراء الكثير من التجارب نجد أن تقديم العرائض وكتابة المقترحات ليس بالضرورة أفضل وسيلة لإصلاح المؤسسات وتغيير مسارها، خاصة إن كانت المقترحات مكلفة، أو تتطلب تغييراً جذرياً في الأفكار أو القيادة أو الاستراتيجية أو الوسائل..الخ، حينها ما أسهل استيعاب المقترحات تحت بند… “إن شاء الله”… فتبرز الحاجة لوسيلة أكثر فاعلية من النصح والنقد..
ومن أقوى هذه الوسائل خلق تحديات خارجية للمؤسسة، قد تتمثل في أطروحات فكرية جريئة تتفوق على أطروحاتها، فلا تجد المؤسسات نفسها إلا أمام مواكبة ثورة الفكر، فتردد نفس المصطلحات، وتدعو للجديد، – إن لم يكن بهدف التطوير الحقيقي فسيكون في الحد الأدنى بهدف إثبات مواكبة العصر.
وقد تتجلى التحديات أيضاً في ظهور مؤسسات ومشاريع بديلة قوية وبراقة تدخل ساحة المنافسة، فعندما تجد المؤسسات منافساً قوياً لها لن تقف مكتوفة الأيدي، لأن غريزة البقاء والتشبث بالحياة تدعوها إلى التفوق على منافسيها، وربما دارت عجلة التطوير بسرعة أكبر مما كان يتخيل الناصحون من داخل المؤسسة، فنجد كل الصعوبات ذُللت من أجل التطوير، وجميع مبررات استبقاء الوضع الراهن تحطمت بيد القيادة ذاتها. فمن أين أتى “عم درويش” بالمال ليطور دكانه، وكيف تغيرت قناعاته فجأة عن احتياجات الجمهور؟؟!!
إن التحديات الخارجية تطوي المسافة نحو المستقبل، فلم أجن من وراء حديثي مع “عم درويش” ونصحي له إلا كلمة “إن شاء الله”.. وبالفعل شاء الله أن يأتي تحدي المطعم الخارجي، ليختزل سنوات الإصلاح، ويضطر صاحب الدكان اضطراراً إلى أن يتحول من “ملك الفول” إلى “صباح الفل“.
إن أي تحد تعقبه استجابة، وأقصر الطرق لإحداث تغييرات جوهرية في المجتمعات هي من هندسة التحديات الخارجية، سواء كانت من صنع الظروف، أو من فعل متعمد. فصناعة التحديات تخلق مجتمعاً أقوى، فتطارد النمطية والسكون وتدفع للإبداع والحركة، ويستعر التنافس من أجل تقديم أفضل الخدمات والأطروحات والمشاريع، فيجد الجمهور أمامه بدائل شتى، ويستمر المنافس الأقوى والأقدر على إجابة أسئلة الواقع، نلحظ ذلك على مستوى الدول حين تغار دولة من دولة أخرى فتية ناشئة فتحشد طاقاتها في مشروع منافس، وعلى مستوى الأحزاب السياسية المتكلسة حين تفاجأ بطرح جديد شاب فتضطر إلى تطوير أفكارها واستراتيجياتها، وقل ذلك بالنسبة للمؤسسات والأفراد.
فخلق التحدي الخارجي يعني إضافة مؤسسات جديدة للمجتمع، ويعني تحفيز المؤسسات القديمة للتطوير، ويعني توفير أفضل البدائل للجمهور. ربما تتضرر بعض المؤسسات الكسولة من هذه التحديات لكن المجتمع يستفيد.
وعلى الشباب المفكر الجريء أن يجيد فن صناعة التحديات الخارجية لتشكيل المستقبل، حتى يشرق صباح المجتمعات على أنغام شلالات المبادرات الجريئة، التي تضيف إلى المجتمعات روحاً جديدة، وتستنفر في الوقت ذاته الآخرين لينتفضوا ويعجلوا بتطوير أطروحاتهم ومشاريعهم.
إنه لخطر عظيم يهدد المجتمعات أن تتوقف مبادرات التحدي فيها، فيتباطأ إيقاع نمو المؤسسات، ويصبح اللحن مملاً يدعو للنوم، فمبادرات التحدي هي صرخة البعث من قبور النمطية والخوف.
إنها نصيحة لكل من أشفق على مؤسسته وأراد تطويرها تطويراً جذرياً… دعك من صندوق الشكاوى الذي لا يُفتح إلا كل عشر سنوات أو ربما ضاع مفتاحه، واصنع التحدي الخارجي فهو كفيل بتشكيل لجنة طارئة -خلال ساعة- لإدارة الأزمات …
يُخشى بعد انعقاد اللجنة أن تتخذ قرارها التاريخي بتحذير الجماهير من المطعم الجديد بدلاً من أن تطور نفسها، حينها لا أملك إلا أن أقول… صباح الفل يا ملك الفول..
وائل عادل
14/6/2007