قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 20 يناير 2015
الاستعصاء على الذوبان
بدأتُ إعداد كوب من الشاي… أحضرتُ السكر والماء والشاي… وأثناء التقليب استثارتني الجريمة التي أرتكبها يومياً… حين أعتقل السكر، وأصب عليه الماء الساخن، وأطمس معالمه البيضاء النقية بلون الشاي الداكن.. فرغتُ من تناول الشاي وانطلقت للعمل.
بدأ الاجتماع… تحدث المدير طويلاً… شد انتباهي وجود كوب الشاي أمامه… قاطعه أحد الحضور مشيراً إلى بعض السلبيات… تحدث بجرأة، فتجرأ معه البعض معترضين على سياسة المؤسسة… حينها أمسك المدير الملعقة… بدأ بتذويب السكر في برود… ثم همس في أذن نائبه… “فسَّحووه“..
بدأت عملية الاجتياح، فهؤلاء الذين يكثرون من التفكير يجب أن تُتبع معهم استراتيجية “فسَّحووه“، انطلاقاً من المسلمة التي قامت عليها المؤسسة، والتي تؤكد أن “الذي لا يعمل سيفكر كثيراً في السلبيات“، والمسلمة الأخرى التي تنادي بأن “من يفكر كثيراً يعمل قليلاً – على اعتبار أن التفكير ليس عملاً“، فلا بأس إذن من إعارة هذا الشخص هنا، وانتداب ذاك هناك، حتى لا يلوث جو العمل بأفكاره، ويصيب من حوله بحمى التفكير، وإن لم تكن هناك فرص لفسحة أو إبعاد، فتبدأ الخطة الثانية وتنفذ استراتيجية “دَوَّخُووه“، حيث يبدأ الرج المستمر مع التقليب السريع حتى يذوب السكر، فتتلاشى الحدود الفاصلة بين الصلب والسائل، والغث والسمين، والقوي والهش. إنه لون خفي من ألوان التعذيب… أن تنهك من يفكر وتشغله في القيام بأعمال كثيرة، لتغتال عقله مع سبق الإصرار، وتشوش على إشارت التفكير مترصداً، لينقطع إرساله وهو طريح الفراش منهك من جهد العمل.
أما الكسالى، أو النمطيون الذين لا يثيرون شغباً؛ فهؤلاء يشكلون الأساسات التي تضمن استقرار المؤسسة وسط أعاصير الأفكار، وزلازل الطموح والأحلام.
خرجتُ من الاجتماع، وتركتهم في “برطمان” الاجتماعات الذي تُبتلع فيه الأفكار… أغلقتُ الباب خلفي، أحكمتُ الإغلاق جيداً.. كتبتُ عليه بخط عربي أصيل.. “خَلِّلووه“.
إن كل طَموح اليوم عليه أن يحسن إدارة الأحلام وصناعة المستقبل، ويهتم في مشاريعه بتفريغ أفراد أو أجهزة معنية بالتفكير والنقد وعرض السلبيات، ولا يُكلَّفون إلا بمثل هذا النوع من العمل، فيمنحون المؤسسة مذاقاً خاصاً، ولا يُنظر إليهم باعتبارهم مادة يجب أن تذوب وتُفتت صلابتها؛ بل يُنظر إليهم على اعتبارهم سر النكهة الجميلة للعمل، وشتان بين أن تُذيب السكر لتتخلص من صلابته، وبين أن تذيبه لتنداح وجاهته على كل الشراب. شتان بين استدعاء السكر لتحلية الشراب، وبين اتخاذ صناعة الشاي ذريعة لطحن السكر، ثم يُترك الكوب حتى يبرد دون أن يشرب منه أحد.
وإن كان كوب الشاي يؤدي إلى اعتدال المزاج؛ فإن الذوبان بهدف التهميش واغتيال الشخصية لايضمن استقرار المؤسسات واعتدال مزاجها- وإن بدا ذلك لفترة. فسرعان ما يتفلت المفكرون ويشح السكر، فلا تتبقى في كوب الشاي إلا قتامة اللون ومرارة الطعم.
وائل عادل
8/6/2007