قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 20 يناير 2015
إعادة تعريف الفعل
نظرتُ إليه… تساءلت… لماذا يقف في مكانه؟!! لِم لا يركب سيارة وينطلق؟؟!! لِم يكتفي بالإشارة؟؟!! متى يتحرك؟؟!!
ثم أعدت التفكير… ربما ليس مطلوباً من عسكري المرور الذي ينظم الحركة ويرشد التائهين أن يترك مكانه.
إن العقل يميز بوضوح بين عسكري المرور والسائق، بين الإشارة التي تنظم الحركة، وبين السيارة التي تتحرك، إننا نميز بدقة بين واجبات كل منهما، فلا نطالب عسكري المرور الذي يستخدم ذراعه وصافرته بأن يقود مثلنا، لم نسمع أحداً يصرخ فيه: “متى تترك التوجيه وتنزل إلى القيادة بنفسك؟؟!!، فلو نزلتَ إلى ساحة القيادة لاكتشفت أن العملية ليست يسيرة، ولتوقفت عن رصد المخالفات والأخطاء”، لم نسمع أحداً يعاتبه ويقول: “حتى متى تكتفي بالإشارة وتحجم عن القيادة والفعل؟؟“. لَم نر شخصاً يسأله عن عنوان، ثم يستاء منه لأنه لن يرافقه في مسيره، بل يُهديه كلمة الشكر لأنه دله على الطريق. فما يقوم به لون مهم من ألوان الفعل، لولاه لاضطرب المرور، ولحار الناس في أي السبل يسلكون.
ولا يتساءل العقل كذلك عن مدى إجادة العسكري أو عجزه عن قيادة السيارات، لأن مهمته تعتمد على مدى معرفته بالطريق، وقدرته على التوجيه، ولا ترتبط بمدى كفاءته في الجانب التنفيذي (التحرك بالسيارة)، فالتنفيذ دور، والتوجيه دور آخر.
على العقل أن يستوعب أهمية فكرة البحث والتنظير بمثل هذا الوضوح في استيعابه وقبوله فكرة اكتفاء عسكري المرور بدور التوجيه، وكما أنه يُقَدِّر دور العسكري في تسجيل الغرامات للمخالفين، فعليه أن يتفهم ضرورة تفرغ مؤسسات لرصد وتحليل النجاحات والإخفاقات. إن استيعاب العقل وتفهمه العلاقة بين التنظير والتنفيذ أساس لتقوية المجتمعات وتقدمها.
ففي المجتمعات القوية يُقَدَّر الجهد الذي تقوم به مراكز الدراسات وأهل الفكر والنظر، فيُهنَئون ويُقَدَّرون، وتقام لهم المحافل لتشجيعهم على الرصد والبحث، وتُدفع لهم الأموال من أجل تطوير هذه الصناعة العملاقة. فلا يدعوهم عاقل لترك هذا الدور والانتقال إلى التطبيق، لأنهم ليسوا مطالبين بالضرورة بالنزول إلى ساحة الفعل بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن، من إنشاء حزب أو جمعية الخ. فما يقومون به يُعد من أساسيات أي فعل، فعلى ضوء نظرياتهم تولد الحركة، ومن وحي أفكارهم يستلهم المبدعون التنفيذيون مسارات للحراك، ومن محاولات التنفيذيين التطبيقية تسمو النظريات، ومن تراكم رصد النجاحات والإخفاقات تتطور الأفكار.
لذلك نرى تنافس المؤسسات الفكرية في الخدمة الراقية، والجودة العالية، والعلمية المنضبطة في تقديم الرأي لكل صاحب مشروع أو حراك تنفيذي. فتنمو في المجتمعات عقول، ترشد الحائرين، وتقدم البدائل، وتعزز الوعي بمعنى كلمة الفعل، الذي يبدأ بنظرية يرتكز عليها تطبيق.
نسمع أحياناً مقولات مفادها أن التنظير وحده لا يكفي، وهي وإن صحت في كون المجتمعات تحتاج التنظير والتنفيذ معاً حتى تتقدم؛ فإنها مخطئة إذا تصورت ضرورة أن يمارس الفعليْن نفس الشخص أو الجهة. فتوجيه السؤال إلى المفكر الاستراتيجي والمؤسسة الفكرية: “إلى متى تظل في التنظير“؛ أشبه بعتاب عسكري المرور… “إلى متى تكتفي بإرشادي للطريق، متى تستأجر سيارة لتوصلني“!!
إننا نعيد تعريف الفعل، فالتنظير فعل، كما أن التطبيق فعل، ولكل من هذيْن الفعليْن أدواته ورجالاته واحتياجاته، فبدون نظرية عمل يختل التنفيذ، وبدون النظر يصعب تحديد ورؤية المسار.
إن مجتمعاتنا مليئة بالطاقات الخلاقة، ومفعمة بالهمم الوثابة، وحين تلتقط الإشارة، وتتمكن من رؤية الاتجاه، ويضاء اللون الأخضر، سنرى أروع مشهد، لون الإشارة الخضراء، يمتزج بلون الخضرة والنماء الذي يرسمه موكب صناع التحول، تتقدمه المؤسسات ومجموعات العمل المتألقة، وسيظل عسكري المرور يرقب الموكب، مكتفياً بالإشارة، لن يترك مكانه، ولن يُفتَن بسحر المشهد، سيسجل التجربة في دفتره، ويحكي الحكاية لتستفيد منها الأجيال القادمة، وسيبدع في تدريب الآخرين على فن التوجيه، ومعرفة أسماء الشوارع، ليرشد الحيارى في الأزمان التي يعاني فيها الناس أزمة الطرق المسدودة.
وائل عادل
17/2/2007