الإثنين, 19 يناير 2015
جديد الأكاديمية

حرف الباء وفن المناورة

قسم: جديد الأكاديمية, زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 19 يناير 2015

إلى أي الحروف تنتمي؟؟

         بينما أنا أقرأ في أحد الكتب، إذا بي أجدني أغيب عن عالم الكتاب، لأدخل عالم الأحرف التي صاغت كلماته، وجدتني أغوص في أعماقه، بدت الأحرف كمجموعة من الرسومات، نسيتُ الكتاب وموضوعه، لأجدني حائراً منبهراً بهذا العالم… عالم الأحرف.

ففي عالم الأحرف تدور حوارات، وتحاك مؤامرات ومعارك وسجالات، وجدت الأحرف تتسابق فيما بينها، لتشكل الكلمات، فحروف “الفاء” و”القاف” و”الراء” قد تصنع “فقر”، لكنها إذا أَحسَنَتْ تشكيل نفسها تكون “رفق”، وجدت الفاعل والمفعول به، ورأيت حزناً مرسوماً على نقاط الكلمات التي قَدَّر لها الكاتب أن يجعلها مفعولاً به.

وهناك الأحرف الصغيرة الرشيقة القادرة على المناورة، ورغم أنها قررت أن تعمل صغيرة منفردة دون الاندماج مع أحرف أخرى لتكون كلمة كبيرة؛ إلا أن لديها من القوة ما يجعلها قادرة على أن تَجُر ما بعدها، كما يفعل حرف “الباء” منفرداً، ليكسر أعتى الكلمات، أو كما يتحالف حرفا “الفاء” و”الياء” ليشكلا قوة “في”، التي تناور وتخترق سدود الكلمات برشاقة باحثة عن هدفها في كلمة كبيرة، فتختار موقعها قبلها مباشرة، لتكسرها بدورها، فلا تُبقي ولا تذر، ثم تجرها عائدة بها إلى الأحرف الخائفة.

رأيت كذلك حرف “اللام” يتألق ذكاءً، حين قرر الانضمام إلى مجموعة حروف العلة، ليفسر الأحداث، ويكشف علتها، فيوضح المبهم، ويجلي الحقائق.

كذلك هالتني تلك الكلمات المستكينة، التي فضلت أن تكون تابعة، فيربطها ويعطفها على ما قبلها حرف “الواو”، ليجعلها تابعة لما سبقها، إن كان مجروراً جُرَّت، وإن كان مرفوعاً رُفعت، إن حرف”الواو” يمسخ ما يليه، وليس هذا جُرمه، بل العتاب كل العتاب على من ارتضى أن يكون مكانه بعد الواو.

ازددت إعجاباً ب”أو” التي تتيح الخيارات، وتعلمنا أنه لا يوجد خيار واحد، أو استراتيجية واحدة، فاستيعاب العقل لـ “أو” يعني تحرره من أسر الحل الأوحد.

إن عالم الحروف يستحق النظر، فمن الأحرف تُنسج الكلمات، وتُصاغ الخطابات، ومن خلالها يعلن القادة قراراتهم المنطوقة أو المكتوبة، فبالحروف تشن الحروب، وبها توقف، فلا عجب أن تبدو في عالم علاقاتها مفردات الصراع.

وإن كان مقبولاً في دنيا الحروف أن يتواجد الفاعل والمفعول به، والجار والمجرور، وحرف العطف والمعطوف، ليتعايش كل هؤلاء كلوحة تشكيلية تنبض ببلاغة الكلمات وبيانها، فإن الحديث يختلف في دنيا الإنسان.

إن الحروف تعلمنا أن نكون في عالم الإنسان بين فاعلين أو مفعول بنا، أن نَجُر أو نُجَر، أن نحسن تشكيل أنفسنا، واستثمار مواردنا، أو أن نهدرها،[1] أن نكتشف دور المجموعات والمشاريع الصغيرة في القيام بأعمال نوعية فعالة – مثلما تفعل الحروف النوعية كالجر والعلة، بدلاً من إعادة إنتاج أشكال القرن الماضي في مشاريع متضخمة، قد لا يسعفها حجمها على السرعة والمرونة في المبادرة واتخاذ القرار.

وليست كل الحروف قابلة للعيش منفردة، لتمارس دورها دون أن تلتحم مع غيرها من الأحرف مكونة كلمة، فحرف الـ”ثاء” لا يعمل منفرداً، والأبطال في الغالب قلة، والقادرون على التصدي منفردين صفوة، وتجسدهم تلك المجموعة من الحروف المتميزة التي تمتلك مهارت العمل النوعي.
        أعجبتني حقاً تلك الحروف الصغيرة، وأسرتني دقتها ومهارتها، التي لولاها لاصطدمتْ الكلمات الكبيرة، ولتراشقتْ. إنها هي التي تُنظم، وتفسر، وتُفصِّل، وتفصل بين الكلمات، وتُعاقِب بالجر والكسر أحياناً، وهي صغيرة ليسهل على الكاتب تذكرها، ويسرع في كتابتها قبل ارتطام الكلمات، ويتمكن من حشرها بين أضخم المفردات.

إن الحروف الصغيرة هي صمام الأمان الذي يحول دون اختلال الجمل ومعانيها، وأعتقد أن المشاريع الصغيرة بدورها صارت اليوم صمام أمان يثبت حيوية المجتمعات، وإمكانيتها وقدرتها على الفعل.

 يقولون أن السمك الكبير يأكل الصغير، وأقول بل الأسماك الصغيرة قادرة على اعتلاء ظهر الحوت.

وائل عادل

 

22/9/2006

—————————————–

[1]  ليس المقصود هنا وضع القاريء في أسر الثنائيات الشهيرة إما.. أو..، لكن الصياغة هنا من منطلق التحفيز لللمشاركة في صناعة الأحداث.


اترك تعليقك




جميع الحقوق محفوظة لـ أكاديمية التغيير Academy Of Change | تصميم وتطوير: سوا فور، المؤسسة الرائدة في تطوير تطبيقات الويب.