قسم: مقالات متنوعة
أضيف بتاريخ: 21 أكتوبر 2011
لم أكن أدرك يوم اشتريت أول كمبيوتر أن العالم سيصبح تحت قبضتي، لم أتوقع أن عشرة أصابع تتراقص على لوحة المفاتيح يمكن أن تكتشف العالم، ثم تساهم في تغييره.
كان الدرس الأول الذي لقنه لي أغلب من أعرفهم بعد شرائي الكمبيوتر يتلخص في التحذير الشديد من العالم الافتراضي، الذي قد ينتشلني من الواقع، لكنني لم أكن أعبأ كثيراً بتلك النصائح الفذة، فقد عشت واقعهم كثيراً، ووجدتني غريباً عنه، فقررت البحث عن واقع مختلف.
وأثناء رحلة البحث كنت كلما أدخل عالم الإنترنت أكتشف أنه عالم حقيقي، ربما يراه البعض افتراضياً لحجم التناقض بينه وبين ما يطلقون عليه "الواقع"، فهو عالم تحكمه الشعوب مقارنة بغيره، وتتبادل فيه الخبرات والمعرفة دون تراتبية سلطوية، تبين لي بالوقت أن العالم اللامعقول هو القابع في الشارع، حيث ساد الوعي بأن قلة حاكمة يمكن أن تتحكم فينا، كان هذا هو قمة الوهم.
تركتُ الوهم وتشبثتُ بالحلم، فقد تعلمت عبر رحلتي في عالم الإنترنت فن صناعة الأحلام، وإن كان من صفة يمكن أن نطلقها على الإنترنت، فهي أنه عالم توليد الأحلام، والأحلام ليست خيالاً مستحيلاً، هي عدة الإنسان في التصدي للواقع الزائف، ألسنا نقضي ثماني ساعات من يومنا نياماً نمارس الحلم رغماً عنا؟! لنتعلم أن عالم الأحلام جزء أصيل من حياتنا وليس طارئاً عليها، وأننا نقضي فيه بالفعل ثلث عمرنا.. عندما ننام لا نهجر الواقع، بل ندخل إلى بوابات جديدة فيه، إننا بالخيال نعيد اكتشاف الواقع وتشكيله.
كان البعض يعتب عليّ جنوحي إلى الخيال، واهتمامي بالمكوث في عالم الإنترنت كثيراً، يطالبونني أن أعيش الواقع، فكنت أرد في نفسي، واقعكم هو عين الزيف، أنا أسلك أقصر الطرق نحو الواقع الجديد.
فقد اكتشفت أن وسائل الاتصالات الحديثة ليست إلا ممرات مختصرة في الواقع، هي ليست بعيدة عنه بل جزء أصيل منه. شبكات الإنترنت ليست عالماً افتراضياً، هي قلب العالم الذي نعيشه، فهي شبكة مرور في الحياة، تٌقل الأفكار والبشر إلى مبتغاهم، ولا تقل أهمية عن شبكة الأنفاق والجسور، إنها ممرات تختصر الطرق، هل عندما تصعد جسراً أو تدخل نفقاً تكون بذلك مبتعداً عن الواقع؟! أنت في قلب الواقع.. لكنك تمكنت من اختراقه.
رأيت بترحالي في ممرات الإنترنت الشباب يجتمع ويتعلم، وفوق جسورها يقف شامخاً ليلعن الطغاة وهو يراهم أقزاماً أسفل قدمه لا يبصرونه، رأيته مراراً في أنفاقها ينشر فكرة، ويطلق أملاً، وعلى جدرانها يكسر خوفه بنشر صورة أو فيديو، أو كتابة تعليق جريء بعد تردد طويل، إلى أن حان وقت الخروج من الأنفاق إلى الشارع، والهبوط من على الجسور بقوة دفع ذاتية ترعب من يقف أمامها. تم ذلك كله في تناغم رائع بين الإنترنت والشارع. مثل تناغم مهبط الجسر مع الشارع الممهد كأنهما قطعة واحدة. فخرج الناس أفواجاً، وعندما قُطعت شبكة الاتصالات، أو لنقل دُمرت الجسور والأنفاق بفعل قلة حاكمة، كانت الجماهير بالفعل في الشارع معلنة بدء الثورة، لينتصر الخيال ويهرول نحونا المستقبل.
وبعد أن نفضت الثورة غبارها، عدت لأبحر من جديد في عالم الإنترنت بحثاً عن المستقبل، فإذا بي أرى الشعوب بألوانها ولغاتها تقترب من بعضها، في الوقت الذي تحاول القلة الحاكمة إبعادها. وأثناء تجولي في موقع "Occupy Together" – وهو موقع مهتم بأخبار احتلال وول ستريت في أمريكا- إذا بي أشاهد حواراً شيقاً استوقفني، سأَلتْ إحدى المشاركات: "أنا من إيران .. كيف أساعدكم؟"، فرد أحدهم مازحاً: "مساعدتك لنا ألا تفعلي شيئاً، لأن الحكومة (يقصد الأمريكية) ستقول أن ما يجري من احتجاجات سببه تدبير إيراني".. توقفت كثيراً أمام الرد، منصتاً إلى حوار شعبي بليغ، فالشعوب تتوقع لغة واحدة يثرثر بها الحكام، سواء كانت في أمريكا أو العالم العربي، هناك أصابع خفية تمكر بهم، حتى في لحظة الخطر لا يرون الشعوب، يبحثون فقط عن أصابع.
وهم ربما صادقون في البحث عن الأصابع، فقد تذكرت رحلة أصابعي في دحرجة الكرة الأرضية واكتشاف العالم منذ أن اشتريت الكمبيوتر، ما لا يدركونه أن هناك مئات الملايين من الأصابع الخفية التي اكتشفت عالماً جديداً من خلف شاشات الكمبيوتر، وأن تلك الأصابع ستتلاحم وتتشابك لتشكيل قبضة عالمية إنسانية، إنه ربيع الأصابع الخفية، التي أطلقت العالم الحقيقي إلى الوجود!!! ولن تكون حكومات "العالم المتقدم" بعيدة عن أصابع الشعوب!!
كم كادت تلك الحكومات لتضليل الشعوب وزرع الكراهية والعنصرية فيها!! حتى في الدول التي تصنف بأنها على رأس الدول المتقدمة، لكن العالم الحقيقي أعطى الشعوب فرصة لتتعارف وتتواصل، وتقرر أنها ستتضامن، وستصب جام غضبها على تلك القلة التي زرعت الكراهية، وعزلت الشعوب عن بعضها، تحت شعارات براقة مثل الديمقراطية والسلام…الخ.
في العالم الحقيقي رأيت تياراً يتنامى من الشعوب المتواضعة، تتعلم من بعضها، وتتبادل الخبرات، وفخورة أنها تسير على خطى واحدة، لا فرق بين أسود أو أبيض، عربي أو أوروبي، هناك مصير واحد يجمع الكل. مصير كوكب اختطفته قلة حاكمة حول العالم. في هذا التيار الإنساني المتصاعد لا تجد استعلاء، بل تواضعاً إنسانياً راقياً، هذا اخترع وسيلة وذاك أجاد تطبيقها وأعطاها قيمة فعلية، منتج بشري يتطور عبر الشعوب، هذه هي الروح الناشئة، روح تقدر الإنسان أينما كان، وتشعر بضرورة التضامن معه، كل يضع إمكاناته في خدمة المظلوم.
في مقابل تلك الروح نجد تنافس حكومات العالم على كسب شعوبها من خلال إيهامها بخطر الشعوب الأخرى، أو تتعامل مع الدول الأخرى بمنطق استعلائي وروح سيطرة الشركات الشرهة. إنهما عالمان يتصارعان، ليس صراع الشرق والغرب الذي تروج له الحكومات، بل صراع الإنسان مع من يطمسون فطرته، ويفسدون منطق تفكيره، ويقطعون ذات بينه. صراع بين العالم الحقيقي والواقع الزائف، العالم الحقيقي الذي تريده الشعوب والواقع الزائف الذي تحميه الحكومات. هذا هو عنوان الثورة العالمية المرتقبة!!
خرجت من عالم الإنترنت على صوت قرع الباب.. وجدت الجريدة على الأرض.. أخذتها فإذا بالخيال يتحقق، فقد ورد في العنوان الرئيسي بخط عريض.. "احتلال ووول ستريت".. أدرت ظهري للباب وصوبت بصري نحو ماكينة توليد الأحلام، ونظرت فيها إلى المستقبل القريب، فرأيت أيادي الشعوب متشابكة، عربية وصينية وهندية وأفريقية وأوروبية وأمريكية، رأيت الشعوب حول العالم تهتف في وجه الحكومات بلغات متعددة.. "عالمنا هو الحقيقي، وعالمكم افتراضي".
وائل عادل
31/10/2011