قسم: مكتبة الأسئلة
أضيف بتاريخ: 20 سبتمبر 2016
نتحدث في هذا المقال عن كيفية التعامل مع العنف الذي قد يتولد في مسار التغيير. وليس المقصود هنا عنف الأجهزة القمعية؛ وإنما العنف الذي قد يتسلل إلى الممارسات التغييرية، ليصبغ مشروع التغيير بطابع عنيف.
فبالرغم من أن تولد العنف عادةً ما يبدأ كرد فعل لعنف الأجهزة القمعية أو لاستفزاز الأطراف الأخرى التابعة للنظام الديكتاتوري لجموع المقاومين، إلا أننا لن نتطرق في هذا المقال إلى ظاهرة عنف المقاومين كرد فعل، وإنما عن مبادرتهم بانتهاج العنف حتى في ظل غياب مظاهر الاستفزاز من قبل قوات الأمن التي عادةً ما تتواجد في ساحات المواجهة.
وقبل البدء في استعراض أساليب حصار العنف الجماهيري نرى أنه من الضروري تذكير الشعوب المقاومة بأن الحفاظ على أهداف التغيير مرتبط بشكل كبير بالحفاظ على مساره، فكلاهما يمكن تعرضه لمحاولات السرقة والاختراق. لذلك ينبغي أن يعيَ المقاومون أن التأكيد والحرص على الأهداف يجب أن يصاحبه التأكيد والحرص على المسار.
ويمكن تصنيف العنف الذي يتسلل إلى الأنشطة التي تدعو إليها قوى التغيير إلى:
· عنف المتظاهرين نتيجة الحماس.
· عنف قوى أخرى منظمة.
أولاً: عنف المتظاهرين نتيجة الحماس:
ويأخذ أشكالاً منها:
العنف اللفظي: ونعني به استخدام السباب والإشارات البذيئة من قبل بعض المتظاهرين المتحمسين، وهم في غالب الأمر يعبرون عن مواقفهم بالطريقة التي اعتادوا عليها، وبناء على ثقافتهم، وهؤلاء يجب ألا يعاقبوا؛ بل على مجموعات العمل المتواجدة في مسرح الفعل المقاوم مساعدتهم على تغيير أسلوبهم. وهذه المجموعات المتحمسة والجرئية يمكن لها – بروح التحدي التي يتمسكون بها – أن تتحول إلى مكون مهم في مشروع التغيير، وسنذكر بعض الاستراتيجيات العامة للتعامل مع هذا النوع من العنف على سبيل المثال:
1. إدارة الحوار: حيث يدار حوار مع المجموعات التي تمارس هذا السلوك، مع توضيح سلبيات هذه الممارسة، التي تنعكس على شكل التظاهرة ومدى اندماج عموم الناس معها. ويكون هذا الحوار ميدانياً أو استبقاياً قبل موعد التظاهرة في حالة أن المجموعات التي تمارس هذا النوع من العمل معروفة.
2. التجاهل مع أخذ الحذر: فإن لم يفلح الإقناع فلا بأس من تركهم وتجاهل ما يقومون به حتى لا يتطور الأمر ويزيد العناد. على أن يتم أخذ الحذر – من تلك المجموعات تحديداً- حتى لا يتطور العنف اللفظي إلى عنف بدني أو تخريب.
3. التشويش: كذلك يمكن تجاوز العنف اللفظي بالتشويش عليه من خلال أغنية حماسية جماعية، أو هتاف منظم، أو نشاط يلفت الانتباه. دون إظهار أن هذا رد فعل على تلك الممارسة حتى لا تتفاقم.
4. الاستيعاب: في حالة أن تلك المجموعات لها قيادات؛ يمكن في هذه الحالة استيعابها في الساحة الأساسية للتظاهرات، فكلما شعرت بالغربة مارست عملها بالطريقة التي تعودت عليها، وكلما أمكن دمجها في الفعاليات المقامة كان ذلك أدعى لانسجامها مع الجو العام للتظاهرة. وإحاطة المتظاهرين بهم أولى من تركهم على الأطراف.
5. الجدار البشري: وفي جميع الحالات حين تشارك مجموعات من المتوقع أن تثير شغباً يجب على الفرق المخصصة لأمن التظاهرة أن تتقدم تلك المجموعات كعازل بشري(بسمك خمسة صفوف على الأقل بحسب كثافة تلك المجموعات)، للحيلولة دون وقوع اشتباكات. ويراعى في تلك الفرق أن تكون على وعي كاف، وأن تطور وسائل الحوار مع مثل هذه المجموعات، وتجرب ميدانياً وسائلها، والتدريب الجيد لتلك الفرق يحول دون اشتباكها هي مع المتظاهرين الذين يمارسون ممارسات تتسم بالعنف.
العنف البدني: ويحدث في الغالب حين يكون في مقدمة التظاهرات من يريدون الاشتباك مع قوى الأمن، وللحيلولة دون اندلاع العنف يجب أن تسيطر على الصفوف الأمامية مجموعات مدربة على ضبط النفس وعدم الاشتباك، دورها عدم التصدي لقوات الأمن من جهة والتفاوض معهم، والحيلولة دون اشتباك أحد من المتظاهرين معهم من جهة أخرى.
العنف التخريبي: كإشعال النيران وإتلاف الممتلكات، وهذا يتم التعامل معه من خلال التأكد من عدم دخول أي مشارك بمواد حارقة أو أدوات يمكن استخدامها في أعمال تخريب، أو توفير لجان شعبية لحماية المنشآت دون أن تشارك بشكل مباشر في التظاهرات. وقد كانت للجان الشعبية دور بارز في ثورة مصر في هذا المجال، حين كانت تمسك بكل من يحمل أي أداة أو مادة يمكن أن تستخدم للضرر بالمنشآت أو المتظاهرين.
ثانياً: عنف تقوم به قوى أخرى منظمة:
هناك حالات أخرى يكون سبب اندلاع العنف فيها ليس حماس مجموعات من المتظاهرين، وإنما عنف ممنهج تقوم به مجموعات منظمة، هذه المجموعات قد تكون مؤمنة فعلاً بالمسار العنيف باعتباره المسار المجدي، أو تكون مجموعات تهدف إلى إفشال مشروع التغيير، كأن تكون تابعة لجهات خارجية أو لبقايا النظام السابق، أو لأطراف لا تريد استقرار الأوضاع، في النهاية سنطلق عليهم "مخربون".
في حالة المجموعات التي تؤمن بالعنف كمسار أصيل، ستفقد أي دعم جماهيري فعلي، خاصة إن كان المجتمع يحقق سلمياً أهدافه- ولو ببطء، خاصة حين يدرك أن ثمة هدف مهم يتحقق بممارساته غير العنيفة، وهو تشكل مجتمع جديد متماسك، يتفاعل مع واقعه بأدوات جديدة، ترسخ في المجتمع وسائل متطورة للحوار السياسي وتصعيد الضغوط، وبتطوير وسائل اللاعنف وزيادة فعاليتها سينحسر ذلك المسار.
أما المجموعات التي تحمل أهدافاً لا تمت لمشروع التغيير بصلة (المخربون)، ولا تريده أن ينجح؛ فأهدافها الأساسية:
· إثارة الاستياء العام.
· إفشال الحكومة القائمة، وتوريطها في ملفات ترهقها.
. توريط المتظاهرين في أعمال عنف
هنا لا يكون العنف في حد ذاته هو الهدف، أي ليس تدمير المنشأة أو تخريبها باعتبارها هدفاً استراتيجياً. وإنما الهدف هو التأثير على الجماهير، والنيل من القوى القائمة على مشروع التغيير.
ومنع هذه الأعمال أو التعامل معها ليس مرتبطاً بقوة قادرة على تنظيم الشارع، وإنما بالقدرة الفعلية على تأمين المنشآت والتصدي لمحاولات التخريب. وهذه مهمة رجال الأمن بالدرجة الأولى. ثم كشف هويات مثيري العنف والتخريب وفضحهم أمام الرأي العام، وهذه مهمة قوى التغيير. ويمكن أن تشارك مجموعات مدربة على ضبط النفس في حماية المنشآت. كما يتم وضع كاميرات تصوير لتوثيق حالة الاعتداء في حالة حدوثها. وبذلك تكون المجموعات الإعلامية متواجدة بدورها في مواقع المنشآت الواجب حمايتها.
إن دور المتظاهرين الأساسي هو التصدي لأهداف مثيري العنف، وليس العنف ذاته، فيسعون لكسب الرأي العام حين يحاول مثيرو العنف إثارة الاستياء، ويدعمون الحكومة إن كان الهدف تعطيلها، يرجع ذلك بالطبع إلى موقف المجتمع عموماً من الحكومة ورضاه عن أدائها.
وفي حالة العنف المنظم من قوى تريد إفشال مشروع التغيير؛ يمكن لقوى التغيير أن تقوم بالتالي:
· الحفاظ على المسار اللاعنيف منذ بدايات الصراع – كعمل استباقي- حتى تُطبع الحركات التغييرية بذلك الطابع، ومن ثم لا تبذل مجهوداً في الدفاع عن نفسها أوقات الأزمات، ليس أمام المسئولين فحسب، بل أمام الشعب وهو الأهم.
· استمرار التوعية بمسار اللاعنف باعتباره الفكرة الفعالة لبناء مجتمع يتقن الحوار، وتعتبر مشاريع التوعية باللاعنف فرصة للتواصل الشعبي وتأكيد المنهج. وهذا كفيل بإعداد الجموع على ضبط النفس والإيمان بالمسار، بالإضافة إلى التبرئة مقدماً من أية شبهة ترمي إلى تلوث الحركات بالعنف.
· حصار العنف بعد اندلاعه والمبادرة إلى تقليل تكلفته، فاللاعنف قد لا ينجح في وأد العنف بشكل كامل، إلا أنه قادر على حصاره.
· الانسحاب مباشرة من الأماكن التي يندلع فيها العنف، مع توثيق ما يجري إعلامياً، ومحاولة الإمساك ببعض من يمارس تلك الأعمال لمعرفة دوافعهم وانتماءاتهم وفضحهم أمام الرأي العام. فكما يتسللون فجأة لتغيير المشهد إلى مشهد عنيف دام، يمكن الانسحاب المفاجيء لتركهم في الساحة وحدهم لا يحتمون بالجماهير.
· تتصدى المجموعات المجهزة كفرق أمنية لحماية المنشآت والتواصل مباشرة مع وسائل الإعلام لإيضاح الصورة، فلا يوجد أي متظاهر في المكان، لا توجد سوى مجموعة من المخربين، وانسحاب الجماهير مع تطوير هذه الطريقة يقي الإشاعات التي تتردد من المشاركين، حيث يحكي كل شخص قصة مغايرة. كما يقي الجماهير عواقب العنف أو الخوف من المشاركة لاحقاً. (هذا يتطلب توعية شعبية بكيفية التعامل في التظاهرات).
· مساعدة الشرطة في القيام بدورها في حماية المنشآت، خاصة عندما لا تُظهر أية عداوة للمحتجين، باعتبارها خط الدفاع الأخير وليس الأول، تجنباً لاشتباكها مع المحتجين. فالعلاقة بين الشرطة والمتظاهرين من المهم العمل على جعلها علاقة تكاملية.
· استثمار العنف وتحويله إلى حدث إيجابي من خلال إجراء حوار مع المجتمع عبر أنشطة متنوعة، ومن خلال فعاليات تؤكد التمسك بالأهداف والمسار السلمي وإيضاح ضرورة تصدي الشعب لمرتكبي تلك الأحداث، بتأكيد ولائهم لمشروع التغيير واستيعابهم لمحاولات إفشاله.
· تنوع الوسائل وتطورها، فأي وسيلة جديدة تربك الخصم لفترة، لكنه بعد فترة يتكيف معها ويكتشف ثغراتها ونقاط ضعفها ومن ثم يبدأ في استهدافها وإفشالها. والحشود الكبيرة وسيلة فعالة ومربكة، لكنها بعد فترة يمكن تسلل العنف من خلالها إن لم يكن هناك اهتمام بالتوعية بالمسار.
ويمكن إجمال القواعد الأساسية للتعامل مع العنف في النقاط التالية:
· تأمين النشاط لا يقل أهمية عن النشاط ذاته، كلاهما يجب التخطيط له.
· اللاعنف المطلق أحياناً يكون مستحيلاً، لكنه يتميز أنه يسعى لحصار العنف لا إثارته.
. كلما زادت الأعداد كان الأدعى إضفاء الطابع المبتهج الذي يقلل التوتر ويحد من التشنج، كما يعكس طبيعة النشاط التي يقوم بها المتظاهرون، وهي أبعد ما تكون عن العمل التخريبي، ويمكن في ذلك ارتداء ملابس مميزة تجذب الانتباه ولها دلالات رمزية، الكتابة على الأرض، الغناء، الخ، مع مراعاة تصوير ذلك وبثه إعلامياً.
. الاتصال مع أهالي المنطقة قبل موعد التظاهرة، وإعلامهم بالبرنامج والهدف لكسب تأييدهم. كما يمكن التواصل مع قوات الأمن في المنطقة لطمأنتهم وتنسيق حماية المنشآت معهم.
. شكر أهالى المنطقة التي استضافت التظاهرة بعد الانتهاء، وذلك من خلال كل الوسائل المتاحة، من أجل تعميق علاقتهم بمشروع التغيير، ووفاء لاحتضانهم التظاهرة. وقد يكون الأهالي هم عنصر التأمين وهم الشاهد الأساسي على ما يجري، سواء إن تمت التظاهرة بدون عنف، أو تسلل إليها مخربون.
· الوعي العام بأسلوب اللاعنف صمام أمان للمجتمع، وبذلك يتحول من ثقافة نخبة سياسية إلى ثقافة شعبية.
· في حالة الخشية من اندلاع عنف، يمكن اعتماد الأنشطة التي تتطلب أعداداً قليلة والقادرة على القيام بتأثير نوعي. (ليست كل الوسائل الفعالة في حرب اللاعنف تعتمد على الأعداد الضخمة).
· تنوع وتطور الوسائل يحول دون اندلاع العنف الذي يكون من أطراف هدفها إفشال مشروع التغيير، لأنها وسائل جديدة عليها لم تدرس ثغراتها بعد.
· بعض درجات العنف قد تتطلب تدخل الشرطة، حين يكون الأمر أكبر من طاقة منظمي التظاهرات، وعليهم التنسيق مع الشرطة في حدود التدخل، هذا بالتأكيد في حالة اقتناع منظمو التظاهرات بحاجتهم إلى الشرطة للتصدي لأعمال العنف التخريبية، وأن قدراتهم وحدهم غير كفيلة بإجهاض أي عنف. خاصة فيما يتعلق بحماية المنشآت.
· اندلاع العنف فرصة لتطوير المجتمع لاستراتيجيات وأدوات تعامله مع العنف.
كانت هذه بعض الأفكار الأولية حول التعامل مع العنف حين يتسلل إلى مشروع التغيير، سواء بفعل قوى التغيير أو قوى خارجها، يمكن تطويرها بعمل ورش عمل وتأسيس مؤسسات مجتمع مدني للقيام ببعض المهام الجزئية التي تتطلب تخصصاً واحترافاً، كالأعمال الإعلامية والتأمينية.
إن مجتمعاً يعتمد التظاهرات كوسيلة أساسية للضغط السياسي يجب أن تتطور فيه تلك الوسيلة، حتى تصبح وسيلة احترافية لا وسيلة هواة، والحاجة إلى التجديد يدق ناقوسه العنف المنظم. بغض النظر عمن وراءه، فالخصوم السياسيون لن ينتهوا، وتسلل العنف إلى مشهد التغيير يدق أجراس وجوب الانتقال إلى العمل المدروس المتطور.
والرسالة المهمة التي ينبغي الانتباه إليها عندما يتسلل العنف إلى مسار التغيير – دون مبررات حقيقية كالقمع المفرط- أن المجتمع كله مسئول عن تطوير استراتيجيات وآليات لحماية مساره السلمي، وهو ليس مساراً مرتبطاً بحدث ثوري بقدر ما هو مرتبط بتأسيس ثقافة جديدة في المجتمع، هي التي ستحدد كيفية الحوار السياسي فيما بين مكونات هذا المجتمع.
إن اندلاع العنف يمكن رؤيته كفرصة لوضع لبنة جديدة في المجتمع القوي، فهو لا يعكس تحدي اليوم، بل تحدي المستقبل، كيف سيتمكن المجتمع من بناء قدراته على إدارة صراع السياسي بشكل حضاري مقدماً النموذج للعالم؟ ولأن الحاجة أم الاختراع فإن أحداث اندلاع العنف تبشر باختراع قادم، حين تتخصص مجموعات أكاديمياً وميدانياً في مجال (أمن المجتمع القوي)، حيث تطور استراتيجيات ووسائل خاصة بالتأمين الشعبي لأي نشاط، كما سيكون لها دور بارز في كل الأنشطة في المجتمع التي يُتوقع فيها احتكاكات بين الشعب، ولا يراد إقحام جهاز الشرطة فيها.
أحمد عادل عبد الحكيم
وائل عادل
11/9/2011