قسم: مفاهيم الثورة والتغيير
أضيف بتاريخ: 9 ديسمبر 2010
يتصور البعض أن التغيير لا يمكن أن يقوده إلا من ذاق معاناة الواقع واكتوى بضغوطه.. والقيادة هنا تعني القيادة العامة والاستراتيجية للتغيير، لا القيادة التكتيكية كقيادة مجموعات العمل والمهام التنفيذية. وهذا التصور يتطلب نقاشاً..
إن الفكرة المبدئية صحيحة، فلن يتصدى لقيادة التغيير إلا من ذاق ويلات الواقع، لكن الخلاف سيكون في طبيعة التذوق، هل هو مجرد رؤية صريحة لواقع فاسد يتطلب التغيير، أم الاكتواء بنيران الواقع والانصهار في أتون المعاناة؟! هل المقصود مجرد التذوق أم التهام وجبات كاملة من الواقع الفاسد؟! هل تكفي رائحة الأطعمة الفاسدة برهاناً على وجوب تغييرها، أم يجب أن يَعُّب منها القائد عباً ليصل إلى هذه النتيجة؟ قدر من الاتصال بالواقع مطلوب لاكتشاف الفساد والشعور بضرورة تغييره، لكنه إن زاد يؤدي إلى تسمم العقل والنفس.!
فالتذوق قد يكون عملاً عقلياً، حيث يفتقد الإنسان الأفكار الصالحة ولا يجدها مهيمنة على الواقع، حينها يكفيه هذا القدر من التذوق لينتفض مُغَيِّراً الواقع.
أما الذين يتجرعون الوجبات اليومية فهم أصحاب المعاناة، الذين يفطرون على البطالة، وغداؤهم الفقر، أما العشاء فجرعة من دواء مسكن لأمراضهم.
الصنف الأول هو الذي يمكن أن يقود التغيير، أما الصنف الثاني فعواقب قيادته وخيمة، إذا كنا نتحدث عن معركة تغيير حضاري، لا معركة تطهير وانتقام!!
وتعود عدم أهلية قيادة من طحنهم الواقع إلى أنك لا يمكن أن تسلم قيادة مجتمع لشخص واقع تحت التعذيب، فكما أن ممارسة العنف على الجسد تشوهه؛ فإن عنف الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية يشوه العقل، وينال من النفسية السوية، ويفقد الإنسان الاتزان.. وهو عنف أخطر من الإيذاء البدني. فصاحب الجسد المشوه يتألم لذلك، ويعلم أنه ليس على خلقته الأولى، ويتفقد حاله كل يوم عَلّ جراحه تكون قد التأمت، أما ضحايا الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية فقد لا يشعرون بالتشويه الذي ضرب عقولهم ونفسياتهم، فالعنف الذي يتعرضون له يفسد الفطرة، ويضلل منطق التفكير السليم، لذلك كان من أشد الأخطار على حركة التغيير أن يتولى قيادتها أناس يطحنهم الواقع وتسحقهم المعاناة.
ليس بالضرورة أن من يتجرعون الآلام هم أقدر الناس على قيادة التغيير، أو من يعيشون ضغط الواقع هم الأولى بالقيادة، فهؤلاء قد تكون صورة المستقبل لديهم متأثرة بشكل كبير بالضغوط الواقعة عليهم، وتصورهم لأعدائهم وأصدقائهم سيتأثر كذلك بحالتهم العقلية والنفسية.. كما أن تحسناً طفيفاً في أوضاعهم قد يُخرجهم من المعركة. إن قيادة التغيير يجب أن تكون قوية، سليمة العقل والنفس، تفكر في الواقع من خارج أسواره التي يضربها على العقل.
مَن تحركه المعاناة فقط قد يتحول إلى شخصية انتقامية إذا ما كان النصر حليفه، لأنه يسعى إلى تصفية حسابات مع كل ملامح الواقع المؤلم الذي كان يتجرع مرارته، أما منْ كان يغلب عليه دافع الفكرة، والانتصار لمباديء وقيم يريدها أن تُزَين الحياة؛ فهو أقدر على ترسيخ تلك القيم عند التغيير، فهو يدرك أن نجاح مشروعه لا يكون إلا بالتمكين للقيم والأفكار التي يؤمن بها.
كذلك يقف القائد الذي لم يتعرض لضغوط الواقع عزيزاً أمام التحديات، فهي لم تُرضخه يوماً ما، فضلاً عن أن تقترب من حماه، لذلك يفخر بأنه جاء يصارع من منطلق أنه حر، والحرية قدرة على الاختيار، وقد اختار دخول المعركة دون أن تكون مفروضة عليه، بعكس صاحب المعاناة المفروض عليه التحدي، والذي يدخل الصراع مجبراً.
الصنفان مطلوبان، المقاتلون من أجل الأفكار والمقاتلون من أجل الأشياء، القادمون من عالم يتجاوز ضغط الواقع، والقابعون في عالم الواقع، لكن الحديث يدور هنا حول الجدارة بالقيادة، عندما يكون زمام القيادة مع الصنف الأول تنتصر الأفكار، ويحدث تغيير جذري في بنية المجتمع، حيث يقوم على أفكار جديدة، أما عندما يقود الصنف الثاني تنتقل ملكية الأشياء من ثلة إلى أخرى، ويصبح مشروع التغيير عنواناً بلا مضمون.
وسنجد أن معظم الرموز التاريخية التي أحدثت تغييراً كبيراً في الواقع كان يتفوق لديها الدافع الفكري على ما سواه، لم تحركهم معاناتهم الشخصية بقدر ما حركتهم معاناة الآخرين.. غاندي، مارتن لوثر كينج، جيفارا، الخميني، وغيرهم كثير.. وإن عدنا بالتاريخ وراء سنجد في الأنبياء خير شاهد، إذ لم يكن المحرك لهم أنهم متضررون بشكل مباشر من الأوضاع القائمة، لم يكونوا فقراء يريدون مالاً أو مرضى لا يجدون علاجاً، وكان يسعهم أن يعيشوا في مجتمعهم مثل الكثيرين دون أن يسعوا إلى تغيير واقعهم، كان يحركهم ما هو أسمى من ضغوطات الواقع، كانت تحركهم فكرة لا يتنازلون عنها، ولا يمكن مساومتهم عليها بزخرف الأشياء.
والمتضررون بشكل مباشر هم قرة العين؛ لهم يعمل قادة التغيير، وبهم يخوضون معاركهم، فهم جنود مشروع التغيير، وأثناء خوضهم المعامع يكون دور القيادة تحرير عقولهم، ومداواة نفوسهم، وصقل أرواحهم، حتى يتمكنوا من رؤية العالم بشكله الجديد كما يراه القادة، عندها لا يشعرون أنهم ضحايا الواقع، وتٌمحى من قاموسهم مصطلحات "الضعف" و"العجز"، لتحل مصطلحات "القوة" و"القدرة".
أغلب الحركات الاجتماعية والدينية التي أحدث تحولات كبرى لقنت العالم درساً بليغاً، بعد أن رفع قادتها الغشاوة عن عيون أنصارهم الذين يرسفون في قيود الواقع، كان يتصدر المشهد قادة يحملون أفكاراً كبيرة، غيروا وعي أنصارهم، يا له من مشهد متكرر يحرك العقل والفؤاد، فئة قليلة في كل مكان تغلب الفئة الكثيرة، فئة قليلة اكتشفت أن بإمكانها تغيير العالم، كانت البداية عندما علمت أنها ليست ضحية، بل هي حل القضية.
إن طبيعة التغيير تتأثر بشكل كبير بطبيعة قادة مشروع التغيير، لذلك كان مستقبل مشاريع التغيير مرهوناً بإجابة السؤال.. من يقود التغيير؟
انظر إلى ألمانيا وهي تُدمَّر في الحرب العالمية الثانية تجد خلف المشهد من وراء دخان صورة هتلر، وانظر إلى نظام الجمهورية الإسلامية في إيران تحضرك مع التكبيرات لحية الخميني وعمامته، وانظر إلى جنوب أفريقيا لترى مانديلا واضعاً بصمته على سحبها ورمالها، فالتغيير هو انعكاس ما يدور في عقل ونفس القائد على الواقع، وكلما قلت النتوءات والتشوهات في طريقة تفكيره وتركيبته النفسية؛ أنتج ذلك مجتمعاً متحضراً راقياً، أما عندما تقود التغيير شخصيات مضطربة لن يحصد المجتمع سوى الجنون!!
وائل عادل
9/12/2010