الأربعاء, 21 يناير 2015
زلزال العقول

المُنْشَقُّون في الاستاد

قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 21 يناير 2015

انشقوا… ثم علموا الناس كيف ينشقون عليكم

اكتظ الاستاد بالجمهور… لم يعد أمامنا سوى نصف ساعة على بدء المباراة… ما زلنا بالخارج… لا يمكننا الدخول… التذاكر في أيدينا والأبواب مغلقة… الجموع المنتظرة تنظر إلى تذاكرها نظرة بله وحسرة… لا أحد يحرك ساكناً… غافلت ملل الانتظار بنظرات متأملة فيمن حولي… فها هي امرأة حامل لا أدري ما الذي جاء بها هنا… وها هو شاب يحمل فوق رأسه سلة ممتلئة بالكتاكيت ربما أراد جذب الكاميرات بها… صرخ أحدهم فجأة… لم لا تفتحوا الباب؟!… لم يجبه رجل الأمن الطيب الذي لا حيلة له… رأيت صاحب الصرخة يشق الصفوف ويتسلق البوابة ويقفز، ففتح الباب من الداخل، حينها انطلقت الأفواج إلى داخل الاستاد مهللة، توعده ضابط الأمن وكاد يفتك به، لولا أن الجموع أحاطته كفارس فاتح فَتَوَّجُوه بحمايتهم.

شدني المنظر، وظل شاخصاً أمامي… الباب المفتوح عنوة… الأم الحامل… الكتاكيت… بَدَأَتْ الفكرة تتشكل… تقترب مني وأتطلع إليها… هالتني روعتها وأسرني سحرها، ربما تُشكل المستقبل وتُسارع وتيرة التقدم إن احتضناها وقبلنا شفاهها… إنها كلمة “الانشقاق“.

فلولا الانشقاق لما فُتح الباب، وحركات الانشقاق عن أفكار وسلوك الكثرة لطالما ألهمت هذه المجاميع الحائرة، والأنبياء لم يكونوا في عرف أقوامهم إلا منشقين، وكثير من الزعماء التاريخين بدوا نشازاً عن معزوفة قومهم، والمعارضة ليست في قاموس الديكتاتوريات إلا مجموعة من المنشقين.
         فـ”الانشقاق” لا يختلف كثيراً عن “التجمع”، من حيث منطق النظر إليه، فلا يفضل أحدهما الآخر، فهو مصطلح، لا يطلق على مدلوله صواب أو خطأ، لأنه أحد أدوات التطور أو التخلف، فالتجمع ليس محموداً لذاته، فتجمع مجموعة من الأغبياء يدمر المجتمعات، وتجمع مجموعة من النابهين يحييها. كذلك “الانشقاق“، ليس مُداناً لذاته، بل قد يكون نافعاً أحياناً وضاراً في أحيان أخرى.

إن “الانشقاق” ليس مصطلحاً يجب التخلص منه، بل ربما يجب إعادة النظر فيه ودراسته دراسة موضوعية، بعدما ارتبط في عقول الكثيرين بأنه عمل أهل الغدر واللؤم. لذلك نحتاج إلى الاقتراب منه وليس الهروب، إلى التعرف عليه وليس زيادة الجهل به. فهو أمر لا يجب تجنبه على الدوام، بل يكون المخرج أحياناً في تبنيه.

وربما يكون “الانشقاق” له دلالات سلبية في وعي البعض لأنه يعبر عن نظرة قائد المؤسسة وليس العامل فيها، ففي مؤسسة الأسرة قد يطرد الأب ابنه، لكنه يتألم إن تركه ابنه، لأنه انشق عن مؤسسة الأسرة، فنال من قيادتها، وفي الشركات قد لا يبالي المدير بطرد مجموعة من العاملين، لكنه يتأذى إن تركوه هم طواعية، لأن ذلك عادة ما يُفسَّر باعتباره خللاً ما، وقائد الحزب السياسي قد يَفْصل بعض أعضائه، لكنه يستميت للحيلولة دون خروج مجموعة نابهة منه –رغماً عنه- حفاظاً على سمعته.

إذن فرافض الانشقاق بالأساس هو الطرف الذي خال نفسه مهيمناً على مقاليد الأمور، فيزرع ثقافة عبثية الانشقاقات، وحرمتها الأدبية والأخلاقية، ليضمن استقرار مؤسسته، لكنه في الحقيقة لم يدر أنه يمتهن مستقبل المجتمعات، حيث تعد الانشقاقات إحدى أدوات تقدمها.

فلقد تأمل هيجل في فلسفة تطور الأفكار، فرأى الفكرة كائناً به قصور، لابد وأن يتولد من داخلها أفكار تشير إلى ذلك القصور، هذه الأفكار التي تولدت من القصور ستصارع الفكرة القديمة، وينتج من الصراع فكرة جديدة يُعتقد أنها عالجت القصور الأول، لكنها ستحمل بدورها جنين قصور آخر، وكلما كبر الجنين ضمرت حيوية الفكرة، فولدت فكرة ثالثة وهكذا، وبذلك تتطور البشرية، وتتكاثر الاختراعات، فمن ثنايا عيوب فكرة الهاتف المحمول من الجيل الأول انطلقت الأفكار التي تطعن فيه بعد أن ذبل بريق الانبهار، فتولدت الأجيال التي تليها، وبمثل هذا السلوك تتطور المجتمعات.

إن الانشقاق ليس مُجَرَّماً في جميع الحالات من كل الأطراف، لم يلم أحد من الجماهير صاحب الصرخة الذي انشق عن المجموع ليفتح الباب، لم يلمه إلا حارس البوابة الذي اعتبر الانشقاق اختراقاً لهيبته، فهو أداة تضر أحياناً وتنفع أحياناً، كالسكين الذي قد يشق جسد إنسان بغير ذنب، أو يشق لحماً طيباً يرتجى التلذذ بطعمه.

إننا نمارسه ونراه يومياً ولا نشعر بالحرج، فهذه المرأة الحامل لا تحتضن إلا مشروع انشقاق قادم، تتجلى إرهاصاته بضربات في الرحم، وحركة مريبة، يليها إعلان الانشقاق، وهو انشقاق مؤلم مبهج، مؤلم “للجسم الأساسي” وهو الأم، ومبهج لها لأنه انشقاق مطلوب، فليس التوحد العضوي دائماً قوة، فكلما زاد الحمل كلما حانت لحظة الانفصال كحدث طبيعي.

تخيلت الأم تتمسك بابنها في بطنها، فرحة بضخامة جسمها، فعادت بي الذكريات للكتاكيت فوق رأس ذلك المشجع، فلولا تمرد الكتكوت على البيضة لغاب عن الدنيا ككائن مستقل بذاته، ولما صار مشروع دجاجة تخدم أكلة لحوم الدجاج، ولولا شقه للبيضة في الوقت المناسب لاندمج فيها وذابت شخصيته، وانعدم نفعه، وفسدت البيضة واستعصت على الأكل.

وهناك فرق بين “الانشقاق” و”التفتت“، لأننا نعني بحركات الانشقاق الاجتماعية والعلمية تلك الثورة على جوانب القصور وإبداع الجديد، أما التفتت فهو هدر الطاقات وتقسيم الكل، ليس وفق استراتيجية للتطور، وإنما لإضعاف هذا الكل، وسحق مصطلح المجموع. إننا يجب أن نميز بين استراتيجية الانشقاق ووبال التفتت. والتفتت يحدث في الانشقاق، لكنه لا يشكل الحدث الرئيسي، فالحدث الرئيسي هو تأسيس شركة صناعة المحمول الجديدة الأكثر تطوراً، ويأتي التفتت كحدث عرضي طبيعي فيتوزع العاملون عادة بين الشركتين. والحدث الرئيسي هو خروج الكتكوت من البيضة، ويأتي تفتت البيضة كحدث طبيعي لا يستثير حفيظة الدجاجة، والحدث الرئيسي هو انشقاق الوليد عن الأم، ويأتي التفتت العضوي كخطوة طبيعية.

والمنشقون دائماً قلة، كلما حققوا نجاحاً التف الناس حولهم واستظلوا بهم، وكلما أخفقوا كلما أحجم المبدعون في الغالب عن محاولة تجاوز المجموع، وإن نجح المنشقون في اختراعهم أو فكرهم أو عملهم الجديد، قد يصيبهم بعد فترة غرور الكثرة وهالة الأتباع، فيجمدون عن التطوير ويغلقون البوابات، وربما استخدموا نفس الحارس الطيب، حينها يتكرر المشهد كحدث طبيعي، فالكتكوت سينقر قشرة البيضة، والوليد حتماً سينذر أمه بضربات خفيفة، والكتكوت سيكسر البيضة ولا يبالي، والوليد لن يتورع عن إيلامها ولن يبالي بصراخها، مدركاً عظم لحظة المخاض، مستحضراً مشهد الجماهير المتطلعة، ليقفز من فوق بوابة الاندماج، متحرراً بشخصيته الجديدة.

إن “الانشقاق” أداة من أدوات تطور المجتمعات وتقدم الأمم، فبعض الحضارات الكبرى مدت حركة الانشقاقات في أعمارها الافتراضية من خلال قيام دول الأطراف – التي أعلنت استقلالها عن القلب- بالدور الريادي، وإلا لمات المشروع أو قصر عمره بسبب ضعف القلب أو توقفه،[1] وكثير من النظريات العلمية والاختراعات العظمى تولدت بفعل الثورة الفكرية والشركات المنشقة المغامرة. لذلك وجب الاقتراب من فهم فلسفة “الانشقاق” ودوره كأداة في إحداث التقدم، وأن يصبح أداة مألوفة مثلها مثل أداة “التجمع“، فالتجمع مطلوب والانشقاق مطلوب، وأحياناً يكون الـ “تجمع” خيانة للضمير وللمجتمع وللإنسانية، حين يجب على المرء أن يضيف لمجتمعه الجديد، وأن يشق طريق الجمود محاولاً فتح الباب، حينها يكون  “الانشقاق” عملاً عبقرياً خالداً، فأكرم بالعلماء المنشقين القائلين بكروية الأرض في زمن كان ينكر الدوائر ولا يرى إلا أجساماً مسطحة، وتحية إجلال لعظماء التاريخ الذين أسسوا حضارتهم بملحمة الانشقاق على الجموع المستكينة، إن المستقبل عادة ما صاغته انتفاضة المغامرين المنشقين.

لذلك من المهم تعليم الجيل أن بداية ظهورنا للحياة كان حركة انشقاق عن الرحم بامتياز، فلا يتهيب من مصطلح “الانشقاق“، لأنه قد يكون سبيل التطور، ثم تدريبه على طريقة إدارته. ولا بأس من إعادة تسمية المصطلح باسم جديد إن كانت الذاكرة التاريخية للمصطلح مؤلمة للبعض، وليكن “نقرة الكتكوت“.

ربما تتشكل بعض ملامح المستقبل من الانشقاق البناء، لكن على المنشقين أن يُعلِّموا أتباعهم كيف ينشقون بدورهم عليهم –إن لزم الأمر، وألا يتحنطوا معهم داخل البيضة، فمن كان بالأمس فارس الانشقاق، سيصبح غداً سبب انشقاق الآخرين عليه، وليس منع ذلك من الحكمة في شيء، بل أشبه بالعبث، فخدمة المجتمعات أولى من خدمة ذواتنا، وحيويتها أولى من عبادتها الأصنام، حتى ولو كنا نحن الصنم..

وائل عادل

17/10/2007

——————————————————————————————–

[1] كانت دول الأطراف المنشقة عن المركز أحياناً تمثل امتداد الحضارات، حتى إنْ ضعف قلب الدولة، فحضارة الأمويين في الأندلس لم تكن إلا حركة انشقاق عن القلب العباسي، فمدت من عمر ورصيد الحضارة.


اترك تعليقك




جميع الحقوق محفوظة لـ أكاديمية التغيير Academy Of Change | تصميم وتطوير: سوا فور، المؤسسة الرائدة في تطوير تطبيقات الويب.