قسم: سلسلة التغيير والمسارات
أضيف بتاريخ: 1 فبراير 2015
لا شك أن المؤرخين في المستقبل سيذكرون أن القرن العشرين كان قرن الصراع بين الديمقراطية ونظم الحكم الاستبدادية؛ بل وسيزعمون بأن التطورات السياسية الكبيرة التي شهدتها الخريطة العالمية خلال الثلاثين عاماً الأخيرة من القرن العشرين إنما جاءت نتيجةً لهذا الصراع الذي حققت فيه الديمقراطية – وبخاصةً في منطقة وسط وشرق أوروبا – انتصاراً كبيراً جعل البعض يطلق عليه “قرن الثورة الديمقراطية العالمية”1]، بل وجعل البعض يؤكد أنه إذا ما كان هناك من ثورة سياسية في ذلك القرن فإنما هي ما يمكن أن نطلق عليه “قنبلة المشاركة”2] ويرمزون بذلك إلى مشاركة الأفراد العاديين في التأثير على صناعة القرار السياسي.
موجة التحول الأولى
إذن يمكننا اعتبار القرن العشرين هو قرن التحول أو قرن العبور من أنظمة الحكم الشمولية إلى النظام الديمقراطي. وهو التحول الذي تم على ثلاث موجات كبرى اجتاحت العالم على فترات زمنية متقاربة إلى حد ما. فالموجة الأولى – وهي الأطول عمراً بين الموجات الثلاث- تمتد جذورها إلى الثورتين الفرنسية والأمريكية، إذ ما فتئت تعلو وتيرتها ببطء في الفترة التي تلتهما، وخصوصاً خلال القرن التاسع عشر، لتصل إلى ذروتها في القرن العشرين عقب الحرب العالمية الأولى مباشرة. فمع بداية عشرينيات القرن العشرين أجريت انتخابات عامة وحرة في حوالي 30 دولة[3]، وهو ما اعتبره “روبرت دال” تحولاً إلى النظام السياسي الديمقراطي، على الأقل من الناحية الإجرائية والشكلية[4]. إلا أن تلك الموجة تحطمت في عام 1922 مع ظهور موجة معادية ومضادة بدأت بظهور موسوليني، والتي واكبها ظهور العديد من الأنظمة السياسية الفاشية أو الديكتاتورية أو الشمولية أو العسكرية في العديد من دول أوروبا وأمريكا اللاتينية.
الموجة الثانية
وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى بدأت موجة جديدة صغيرة من التحول إلى الديمقراطية شملت بلدان ألمانيا الغربية (سابقاً) والنمسا وإيطاليا واليابان، كما شملت ستة من دول أمريكا اللاتينية[5] والتي لم تنعم بهذا التحول طويلاً، إذ واتت العالم موجة أخرى مضادة في منتصف الخمسينيات وامتدت لتشمل ستينيات القرن العشرين لتتحول دول أمريكا اللاتينية والكثير من دول أفريقيا وآسيا مرة ثانية إلى الأنظمة السياسية العسكرية والشمولية.
الموجة الثالثة
ومن المفارقات أن بوادر الموجة الديمقراطية الثالثة بدأت مع الانقلاب العسكري في البرتغال[6] في عام 1974، ثم شملت كلاً من اليونان وأسبانيا في أوروبا، وامتدت لتشمل أمريكا اللاتينية التي حققت في ثمانينيات القرن العشرين مزيداً من التحول إلى الديمقراطية[7]. كما طالت الموجة بعضاً من بلدان آسيا وأفريقيا، إذ شهد منتصف الثمانينيات نهاية حكم فرديناند ماركوس في الفلبين، وبعدها بقليل في عام 1988 تم القضاء على الحكم العسكري في باكستان، كما قادت النخبة الحاكمة في كل من تايوان وكوريا الجنوبية بلادهما نحو التحرر والديمقراطية.
ومع نهاية الثمانينيات بدأت “قطع الدومينو” في التساقط واحدة تلو الأخرى، إذ أخذت الأنظمة الشمولية تتهاوى، وبدأت الديمقراطية تزحف وتتقدم بسرعة على وجه الخريطة العالمية، فبعد مرور 15 عاماً على ثورة القرنفل استطاعت ثلاثون دولة في أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا تحويل البنية السياسية السلطوية الشمولية إلى بنية ديمقراطية[8].
توابع الموجة الثالثة
وقد صاحب تلك الموجة الثالثة كم هائل من النظريات والمناهج والمفاهيم والتحليلات المقارنة المتعلقة بفكرة تغيير النظم السياسية. وهو ما أتاح المناخ لإعادة البناء المنهجي للجوانب النظرية في بحوث التحول والتغيير. كما واكب تلك التحليلات السياسية والاجتماعية لهذه التحولات التاريخية موجة عارمة من المفاضلة والتفريق والتمييز الدقيق والحدي بين عمليات التحول المختلفة، وهو ما أدى إلى ظهور “ترسانة المصطلحات” المتعلقة ببحوث التحول والتغيير، وقد استخدمت مجموعة كبيرة من المصطلحات – بشكل مترادف أحياناً وبمعان متباينة ومختلفة أحياناً أخرى – لوصف الوقائع التاريخية وعمليات التحول المختلفة التي واكبت تلك الموجات الكبرى الثلاثة، فظهرت مصطلحات التحول والتغيير أو الثورة والانهيار والتحلل أو السقوط والتجديد والتحديث أو الإصلاح والتحرير والتحول إلى الديمقراطية وتغيير نظم الحكم أو تغيير النظام.
ولم يقف تأثير تلك الموجة العلمية على المصطلحات المتعلقة بالتحول والتغيير فحسب، بل جاوزتها لتناقش فكرة ومصطلح الديمقراطية في محاولة للوصول إلى إجماع[9] حول ماهية الظاهرة والثقافة الديمقراطية التي ارتبطت بالكتابة الصحفية الإعلامية والأكاديمية العلمية لدى تناول المجريات والأحداث السياسية بالشرح والتحليل.
وقد اتخذت تلك التحليلات مسارين رئيسين:
الأول تلك المحاولات التي صبغت تعريف الديمقراطية بالقيم المعيارية المثالية كالحرية والمساواة وحق التصويت الفردي والتعددية.
وثاني تلك المحاولات هي التي صبغت التعريف بالنواحي الإجرائية كأسلوب الانتخابات وعملية اتخاذ القرار السياسي.[10].
لماذا تتبعنا موجات التحول السياسي نحو الديمقراطية؟
لا تتناول هذه الدراسة تقييم مدى صلاحية النظام الديمقراطي، كما أنها لا تدعو إلى تبني منظومة ديمقراطية بعينها؛ وإنما جاءت كي تعالج قضية التغيير السياسي بدءاً من ماهية النظم السياسية وكيفية عملها وانتهاءً بآليات الانتقال من نظم الحكم الفردية – مهما تعددت أسماؤها – إلى نظم الحكم التعددية وذلك بغض النظر عن الأطر الأيديولوجية التي تختارها الجماهير. فالدراسة تهدف إلى البحث عن شروط وأسباب وكوابح ومعجلات ومسارات ومراحل والقوانين الحاكمة لعمليات التغيير والتحول في النظم بصفة عامة، ومن النظام الفردي إلى النظام التعددي بأشكاله المختلفة بصفة خاصة.
أحمد عبد الحكيم
2/11/2008
——————————————————————–
[1] Kriele, Martin (1987): Die demokratische Weltrevolution. Warum sich die Freiheit durchsetzen wird, München/Zürich, Piper, S.147.
[2] Almond, Gabriel/ Verba, Sidney (1963): „An Approach to political culture“, in Almond, Gabriel/ Verba, Sidney, the civic culture, Princeton University Press, New Jersey, S.4.
[3] هذا العدد وفقاً للإحصائية التي ذكرها صمويل هنتينجتون في كتابه “الموجة الثالثة.. التحول إلى الديمقراطية في القرن العشرين”
Huntington, Samuel P. (1991): The Third Wave. Democratization in the Late Twentieth Century, Oklahoma, P.17.
[4] Dahl, Robert (1971): Polyarchy, New Haven, P. 2.
[5] الأرجنتين: 1946-1951، البرازيل: 1945-1964، إيكوادور: 1948-1961، بيرو: 1939-1948، أروجواي: 1942-1973، فنزويلا: 1945-1948.
Rueschemeyer, Dietrich/Huber-Stevens, Evelyne/Stephens, John (1992): Capitalist Development and Democracy, Cambridge, P. 160.
[6] انطلقت ثورة القرنفل في البرتغال، حيث قام رتل من عشر مدرعات خفيفة و12 شاحنة وبضع مئات من جنود المشاة بإحتلال ساحة الوزارات في لشبونة في فجر يوم 25 ابريل 1974. وبعدها بساعات انضمت القوات التي أُرسلت لوأد الانقلاب إلى الثوار دون إطلاق نار، وقد استقبلهم السكان بالمواكب رغم النداءات الداعية إلى المكوث في المنازل. وفي النهاية استسلم مارسيلو كايتانو رئيس الحكومة المحاصر في هيئة أركان الدرك، ونقل سلطاته إلى الجنرال سبينولا الذي ترك الحشود تفرج عن مئات السجناء السياسيين بالليل، وهكذا انهار النظاك الديكتاتوري في البرتغال.
Barker, Collin (2002): Revolutionary Rehearsals, First Edition, USA, Haymarket Books.
[7] إيكوادور: 1978، بوليفيا: 1980، الأرجنتين: 1983، أروجواي: 1984، البرازيل: 1985، شيلي: 1980.
Rueschemeyer, Dietrich/Huber-Stevens, Evelyne/Stephens, John (1992): Capitalist Development and Democracy, Cambridge, P. 162.
[8] Huntington, Samuel P. (1991): The Third Wave. Democratization in the Late Twentieth Century, Oklahoma, P.21.
[9] في هذا الإطار يجب التنويه إلى وجود محاولات أكاديمية عديدة حاولت الوصول إلى إجماع حول مصطلح وثقافة الديمقراطية .
[10] عبر أحد علماء السياسية عن مشكلة تحديد ماهية الديمقراطية والتي يراها بأنها “النزوع أو الميل نحو القول بأنها مرادفة لجميع الأفعال الصالحة والصحيحة والجميلة في المجتمع” ويمكن الرجوع في ذلك إلى كتابه
Beyme, Klaus von (1986): Die deutsche Politikwissenschaft im internationalen Vergleich; in: ders. (Hrsg.), Politikwissenschaft in der Bundesrepublik Deutschland. Entwicklungsprobleme einer Disziplin, Opladen, Westdeutscher Verlag, S.189.
وهنا يجب القول بأن أي محاولة لتحديد تعريف عالمي جامع وعام لمصطلح وظاهرة الديمقراطية أو للثقافة الديمقراطية لابد وأن يفشل نظراً لتعدد الثقافات والأديان والأعراف، ومن ثم فإنه من الأوقع حث الشعوب من مختلف الثقافات على إيجاد الخلطة الثقافية المناسبة الوصول للتعريف المناسب لهم لمصطلح الديمقراطية، على أن تبقى فكرة التعددية والحرية هي الفكرة المركزية والمحورية الرئيسة في مختلف تلك التعريفات.
Bookmark/Search this post with