قسم: زلزال العقول
أضيف بتاريخ: 21 يناير 2015
روعة التنوع تبني المجتمعات
في قسوة حر الصيف… أضربت الأنوار عن العمل لتعلن انقطاع الكهرباء… لم يكن ظلام الحجرة أشد قسوة من خيبة الأمل التي أصابت الأطفال الملتفين حول شاشة التلفاز… إلا أن خيبة الأمل تحولت إلى خوف من المجهول حين نظر الجميع – صغاراً وكباراً- إلى مبردات الهواء يستحلفونها بالله أن تعمل صارخين: “مين إلليّ طفى النور؟!!“.
مذهل هذا الاكتشاف الذي نقل البشرية نقلة كبرى في كل المجالات، وهو اكتشاف لحقيقة تغلف الكون… بل وتغلف نمط سلوكنا وتفكيرنا… إنها الكهرباء.
إن الكون مشبع بشحنات كهربية، والإنسان بطبيعة الحال يحتوي على شحنات كهربية، أي أن فلسفة الكهرباء جزء أساسي من تكويننا. جزء من فلسفة الحياة.. فهل فهمنا كيف تعمل الكهرباء التي تحتويها كل ذرة منا؟؟!!
من المدهش في الكهربية أن الأجسام الحاملة لشحنات متشابهة تتنافر، بينما تتجاذب الأجسام الحاملة لشحنات مختلفة، فهل الكون قائم على لقاء المختلفين أم المتشابهين؟؟!! أليست الشحنات الموجبة تنفر من نظيراتها الموجبة ولا تنجذب إلا إلى شحنات سالبة، فالحياة قائمة في كثير من أشكال توازنها على الاختلاف. ومزيج من الاختلاف والتشابه يخلق معادلة إنسانية راقية لإدارة الحياة.
هذا الفهم لانجذاب المختلفين ينعكس على حياتنا بشكل أو بآخر، على مستوى الأفراد والمجتمعات. فامتلاك شحنة فكرية قوية لا يكون إلا بمعرفة الإنسان بضد ما يؤمن به، ولا يسعه أن يفهم الحياة بدون مخالطة كل الأفكار التي تُطرح فيها. وتتطلب إقامة علاقات اجتماعية متزنة اقتراب الإنسان من كل شحنات مجتمعه، ليس تفضلاً عليهم أو منة، وإنما من أجل أن يصل إلى حالة من النضج المعرفي والعلاقات البناءة، من أجل أن يفهم محيطه ويطرح التساؤلات على عقله متثبتاً من صلابة ونضج ما يعتقده.
إننا بحاجة إلى المختلفين معنا، ولهم ندين بتطور أفكارنا، ومخالطتهم قد تكون أكثر نفعاً – على الصعيد الفكري- من مخالطة من يدندنون بنفس أفكارنا، فلنبحث عنهم إن لم يكونوا بجوارنا، في الواقع أو في الكتب، على شاشات التلفاز ومواقع الإنترنت، فهم الذين يستحثوننا على البحث والنظر والتأمل، ولولاهم لما تزحزح إنسان عن فكره أو معتقده متجهاً لما رآه أصوب.
وكذلك المجتمعات يجب أن تعي قيمة التنوع وتعتبره عامل بناء، حين تتوافر فيها الشحنات السالبة والموجبة، لتولد تياراً ينير الطرقات، ويشيد المصانع والاختراعات، ويبني مجتمعاً قوياً متلاحماً يعلم أن سر قوته في تنوعه. فها هي الهند تجعل من تنوعها سلاحاً رغم تعدد لغاتها ودياناتها، ومن قبل فعلت السويد وأمريكا وغيرهما، فحولت التنوع إلى قوة، لأنها أحسنت ضبط معادلة الإلكترونات -بدرجة من الدرجات!!
فلا تستقر الشحنات السالبة (الإلكترونات) حول الذرة إلا نتيجة عمليات التنافر والتجاذب، فهناك قوة تحاول طرد الشحنات السالبة وإبعادها عن الشحنات الموجبة، بينما هناك أخرى تحاول جذب الشحنات السالبة إلى الموجبة، وهذا التفاعل بين القوتين (الطرد والجذب) هو الذي يجعل الشحنات تدور مستقرة حول النواة كما تدور الكواكب حول الشمس في مشهد بديع.
ومشهد الجذب والشد مشهد طبيعي في عالم الأفكار، لكن المخيف أن نسلط الضوء على أحدهما دون الآخر، لأنه مشهد واحد في نفس الزمان والمكان، لا يمكن الاستمتاع به إلا وهو كل لا يتجزأ، فقد يلتقط شخص ما صورة لمشهد قوى الطرد تحول بين الموجب والسالب في مشهد طائفي متعصب، وقد يلتقط آخر صورة جزئية لمشهد الجذب الذي يوهم الناظر أن الشحنات السالبة ستلتصق بالنواة لتنصهر الأفكار في فكرة واحدة لا يمكن إلا أن تكون فكرة ديكتاتورية، إلا أن المشهد الكلي يبرز تفاعل الطرد والجذب لتستقر الشحنات وتتقدم المجتمعات. والمجتمعات التي تنشط فيها حركة الفكر وطرح التصورات، ويُترك المجال كي تتدافع الأفكار فيها بين طرد وجذب، تلك هي المجتمعات المستقرة التي لا يخل بحركتها تطرف فكري، وتكتسب مناعة ضد الضمور الثقافي.
سرى التيار الكهربائي من جديد… هتف الصغار من أعماقهم “جاء النور”… وما دروا أن سريان التيار ليس إلا نتاج التمرد.
فهناك الإلكترون المتمرد الذي يبتعد عن النواة وتضعف جاذبيتها له، حينها يسعى للتمرد على التبعية ويتحرر من أسر الطواف حول النواة متذمراً على أن يتمتم بما لا يفهم، فينطلق شارداً بين الذرات، وبفضل هذه الانطلاقة، وبجرأة هذا التمرد يتولد “التيار” الكهربي. ذلك التيار الذي أضحى أحد أسرار الحياة. وهو تيار المتمردين على الأفكار المميتة بأفكارهم المستقبلية، الذين يخالفون من حولهم ليثبتوا فساد القول بالاستسلام للدوران حول الواقع المر أو الفكر الجامد.
إن الكهرباء جزء أصيل في تركيبتنا، أرى أننا يجب أن نستفيد من قوانينها لنعيش بشراً طبيعيين، نبحث عن غريب الأفكار، وننقب عن المختلفين عنا ولو بدافع فضول التعارف، ونشجع التمرد في ثوب انطلاق واع ليسري تيار التقدم في مجتمعاتنا… إنها لغة الكهرباء فلنتقنها، ومنطق الفطرة فلنعد إليها…
وعلى كل حال.. يكفي أن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن السبب الأعظم في اكتشاف الكهرباء كان “الاحتكاك“. فهل نحسن صناعة كهرباء المجتمعات القوية بفن الاحتكاك؟؟!! وهل نبرع في إدارة التنوع وإطلاق التيار لينعم الناس بمدفأة الترابط ونور الحب ووميض الفكر؟؟!!
بعد أن أنهيت حديثي قال أحد الجالسين مشيراً إلى المصباح المضيء متهكماً: “هذا هراء…لا توجد إلا فكرة واحدة يجب حمل الناس عليها… وتباً للإلكترون المتمرد وللتيار معاً…لا يوجد سوى الموجب وفقط“، حينها تلفتتُ إلى من بجواري قائلاً: “مين إلليّ طفى النور؟؟!!“
وائل عادل
1/10/2007