الثلاثاء, 20 يناير 2015
ثورة الأفكار

شبح التنظير

قسم: ثورة الأفكار, جديد الأكاديمية
أضيف بتاريخ: 20 يناير 2015

لقد بدأ العالم أولى خطواته نحو المستقبل، تلك الخطوة التي يجسدها الحراك التغييري المتصاعد، والرغبة المتنامية في التغيير سواء على مستوى الحكومات أو المؤسسات، ويواجه هذا الحراك مجموعة من التحديات وهو يحاول الخروج بالمجتمعات من عنق الحاضر إلى فضاء المستقبل، بعض هذه التحديات ينتمي لعالم الأفكار وبعضها ينتمي لعالم العلاقات وبعضها ينتمي لعالم الأشياء. ولما كانت منظومة عالم الأفكار هي مهد التحولات الحقيقية؛ فسأتناول أحد التحديات التي تواجه عالم أفكار الحركات التغييرية، والتي تحد من قدرتها على صياغة نظريات عمل فعالة، ألا وهي “شبح التنظير”.

التنظير في عيونهم

يعتقد بعض القادة والفاعلين والنشطاء السياسيين والاجتماعيين أن صياغة النظريات شبح يهدد الحركات التغييرية، يهددها في ثوابتها وأساليب عملها، ويعتقدون بأن وظيفة المنظر هدم ما هو كائن، وحتى إذا ما صلحت نية المنظر فإن التنظير أمر عديم الجدوى ولا فائدة منه، وأن على المنظرين مغادرة مقاعدهم والانتقال إلى ساحات الفعل العملية، ومن ثم تُذكر كلمة “التنظير” أو “المنظر” على محمل السلب لا الإيجاب.

أسباب نشأة هذا التحدي ويكمن جزء من هذا التحدي الذي يواجهه هؤلاء القادة في اعتقادهم بأن النظرية تناقض الفعل والممارسة، وبأن التنظير كلمة مرادفة للقعود والكسل. بينما يكمن جزء آخر من هذا التحدي في إيثار القادة السلامة، إذ أن صياغة نظريات عمل جديدة يتبعه بالضرورة كثير من التغييرات في بنى وهياكل وثقافة واستراتيجيات وتكتيكات الحركة، وهي كلها تغييرات يشفق بعض القادة على أنفسهم منها، أما الجزء الثالث من التحدي فنراه في الاعتقاد بعجزهم عن صياغة وبناء نظريات عمل تنافس النظريات القديمة التي انطلقوا منها والتي صاغها مفكرون وقادة بارزون.

حقيقة التنظير يُعرف التنظير على أنه “التفكير الحذِر والعلمي في الممارسة والفعل المستقبلي”[1]. فجوهر التنظير هو ترشيد الفعل والممارسة المستقبليين، وبالتالي فالنظرية التي لا يمكن تطبيقها هي في حقيقة الأمر نظرية فاشلة أو لم تثبت جدواها.

وفي هذا السياق فإن التنظير وصياغة النظريات ليس مقصوراً على الباحثين والأكاديميين؛ بل إن كل قائد وفاعل سياسي واجتماعي لابد أن يكون قادراً على صياغة النظريات – بدرجة ما – عندما يواجهه تحدٍ ما، وإلا ستكون استجابته للتحديات التي يواجهها مرهونة برد فعله اللحظي أو بنظريات صاغها آخرون، والتي قد لا يكون مقتنعاً بها، ولكنه مضطر لتبنيها لاعتقاده بعجزه عن صياغة نظرية عمل تناسب واقعه.

ولأنني أعتقد بأهمية قدرة القادة والفاعلين السياسيين على التنظير وصياغة النظريات فسأحاول أن أتعرض بسرعة – في هذا المقال – لفكرة النظرية الاجتماعية والسياسية ودورها الوظيفي.

كيفية صياغة النظريات[2] تتعامل النظريات ابتداءً مع عالمين منفصلين من الوقائع والأحداث: أولهما تلك الوقائع التي حدثت في الماضي وثانيهما تلك المتوقع حدوثها في المستقبل. ومن ثم فملاحظاتنا حول الماضي تمثل مدخلات عملية صياغة النظرية، بينما يمثل شكل الفعل المستقبلي مخرجات النظرية. أي أن النظرية تحاول تفسير الماضي لتتنبأ بالمستقبل.

وحتى تستطيع النظرية تفسير الماضي فإنها تسجل الأحداث وتصنفها وتوصفها، وتبني العلاقات السببية بين تلك الأحداث والوقائع والمعلومات ثم تبسطها في شكل نموذج ما (Model). ولكون تسجيل جميع الأحداث وتصنيفها وتوصيفها عملية شبه مستحيلة بالنسبة للمنظر؛ فإنه يكتفي بمحاولة الإحاطة بالمعلومات الأساسية التي تحول دون حدوث الأخطاء القاتلة في النظرية. وكلما كانت المعلومات أقرب للدقة كلما كانت النظرية أقرب للصواب، إلا أنه يجب الانتباه إلى أن البحث اللانهائي عن المعلومات لا تنتج عنه نظرية عمل في نهاية المطاف، وهو أشبه بمحاولة الوصول إلى نهاية الأفق.

وكثير من القادة والفاعلين السياسيين والاجتماعيين يحجمون عن صياغة النظريات وبناء النماذج، بينما يكتفي المتميزون منهم بتنظيم وتصنيف وتوصيف الأحداث، ولا شك أن الاكتفاء بهذه الخطوات الثلاث أكثر أمناً للقادة من بناء النماذج وصياغة نظريات العمل، ولكن مثل هذا السلوك يدفع الحراك التغييري في اتجاه مستقبل تسوده ردود الأفعال أكثر من الفعل المقصود والمرسوم والمدروس بدقة. إذ أن تبسيط المعلومات في شكل نماذج ونظريات يمثل خطوة ضرورية وجريئة نحو التحكم في شكل الفعل المستقبلي.

والخطوة النهائية في تفسير الماضي – والتي تعد صلة الوصل بينه وبين المستقبل – هي بناء العلاقات السببية، فالمنظر لا يستطيع مثلاً أن يصنف الأحداث (أ) و (ب) و (ج) ثم ينتقل مباشرةً إلى التنبؤ أو التوقع؛ بل لابد أولاً أن يبحث عن الأسباب: هل (ب) هي نتاج (أ) أو العكس؟ وقد لا يكون بين الحدثين صلة مباشرة إلا أن مجموعهما سبب الحدث (ج)، وهكذا. فالبحث عن الأسباب هو الجسر نحو التوقع، ويمثل حلقة الوصل الأساسية بين الماضي والمستقبل.

تقييم النظرية وحتى تصبح النظرية مفيدة لابد لها أن تتوقع، والنظرية التي لا تبني رأياً واضحاً حول المستقبل هي نظرية قد تكون سليمة من الجهة الأكاديمية[3]، ولكنها لا تبني مستقبلاً، وتلك النظرية لا يحتاجها القادة والفاعلون السياسيون والاجتماعيون.

وهذا التوقع لابد وأن يكون مفيداً، فعلى سبيل المثال قد يتنبأ المنظر بأن الشمس ستشرق في الغد، ورغم أن هذه النظرية قد تكون دقيقة وسليمة إلا أنها لا تمثل أداة تمكن الحركة التغييرية من كبح استراتيجية الخصوم أو تحقيق استراتيجيتها، فلابد أن تكون النظرية قادرة على التحول إلى خطط عمل. ولهذا السبب فإن أهم خطوة في تقييم النظرية ليس في مدى صحتها ولكن في مدى نفعها. فالنظريات التي تحتفظ بصحتها إلى ما لا نهاية نادرة جداً، وأكثرها تنتمي إلى العلوم التطبيقية، وهنا يكمن الفرق بين النظرية في العلوم التطبيقية والعلوم الاجتماعية، فالعوامل التي تدخل في صياغة النظرية الاجتماعية متغيرة باستمرار، كما أن المنظر السياسي والاجتماعي كل ما يريده هو بناء واستلهام مسار للفعل المستقبلي على ضوء نظرية مدروسة، فإذا ما نجح هذا المسار أصبحت النظرية مقبولة، وإذا ما فشل المسار أصبحت النظرية محل شك وإعادة دراسة.

مطلبنا من القادة والفاعلين إن على قادة الحركات التغييرية أن يكونوا قادرين على تصنيف وتوصيف ملحوظاتهم حول الوضع السياسي والاجتماعي وحول أساليب عمل المقاومة واستراتيجياتها وتكتيكاتها، وحول عوامل النجاح والفشل وغيرها وجعلها مدخلات للعملية التنظيرية، ليخرجوا من ذلك بتوقعاتهم حول مسارات الفعل المحتملة في المستقبل. وإذا لم يستطع القادة القيام بهذا الدور، وإذا كانوا عاجزين عن التنظير لحركاتهم ولمقاومتهم فسيكونو قد حكموا على أنفسهم بالتخبط في ردود الأفعال الجزئية أو بإتباع نظريات أخرى قد لا يكونون موافقين عليها كلية ولكنهم مضطرين لاتباعها لعجزهم عن صياغة نظرية عمل.

وهنا سنلحظ أن أغلب القادة والعظماء في التاريخ كانوا يُنظرون لحركاتهم، وهو ما نلمسه في التجارب الإسلامية والشيوعية والنازية والليبرالية، فكتابات حسن البنا وماوتسي تونج ولينين وهتلر جورج واشنطن وغيرها تدل على دور التنظير والـتأطير في الفعل التغييري.

وفي هذا الإطار فإن التنظير لا يتعارض مع الممارسة والفعل على أرض الواقع؛ بل يرشد الفعل، ويجعله أقرب للصواب، وأكثر قدرة على تحقيق الأهداف المرجوة.

أحمد عبد الحكيــــــم

 7/3/2007

——————————————————————————–

[1] Fighting by Minutes: Time and the Art of War, Robert R. Leonhard , Praeger Publishers. Westport, CT. 1994

[2] Fighting by Minutes: Time and the Art of War, Robert R. Leonhard , Praeger Publishers. Westport, CT. 1994

[3] ونقصد بالنظرية السليمة من الجهة الأكاديمية تلك النظرية المبنية على منهج علمي واضح، والتي تتوافر فيها الشروط العلمية.


اترك تعليقك




جميع الحقوق محفوظة لـ أكاديمية التغيير Academy Of Change | تصميم وتطوير: سوا فور، المؤسسة الرائدة في تطوير تطبيقات الويب.